بعيدا عن السياسة، قريبا من السياسة: رحيل (حمدي مطر)

د. أسعد عبد الرحمن

وجدتني، في غفلة مني، وقد هوجمت – بغتة – بسيوف وخناجر “الموت الطازج”، المفاجئ والأحدث، فانهمرت على خلايا دماغي ذكريات “عصفت”، وليس فقط “عبرت” … “أفق خيالي”، فأدمتني. وحقا، يؤتى “الحذر من مأمنة”!!! ففي واحد من لقاءاتنا المعتادة، مرة كل أسبوع أو أقل مؤخرا، تحدثنا –حمدي مطر وأنا- طبعا ضمن أمور شتى، تحدثنا بألم متفاوت عن أحباء قد رحلوا عن عالمنا، أو أصدقاء قد غادروا الحياة بيننا، وكذلك عن أحباء وأصدقاء افترضنا أنهم في “حالة توديع” لنا وكيف أن بعضهم سيفطر قلوبنا بالوفاة قريبا، وبالتالي ضرورة تحصين الذات، والتعوّد من الآن على الفكرة بحيث نتجلد من الآن (!!!). عن كل ذلك، تحدثنا. ثم غادرت إلى فلسطين لبضعة أيام عدت بعدها لأعلم، صباح اليوم التالي، من زوجتي خبر رحيل (حمدي مطر- أبا سمير) التي كان قد أوكل لها صديق “مهمة” إعلامي، بعد أن كان صديق آخر قد أوكل إليه “المهمة” ذاتها، حيث أن كليهما قد خشيا من إعلامي مباشرة بالخبر المقيت. ففي ذلك الصباح الأسود (19/6/2014) أعلمتني زوجتي بأن ظهيرة ذلك اليوم ستشهد جنازة (حمدي) وليس أحداً غيره ممن توقعنا (هو وأنا) رحيلهم!!! ففعلا، “سبحان من قهر العباد بالموت”. وفعلا “أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة”، وفعلا “ولقد كنتم تمنّون الموت من قبل أن تلقوه”. ولعمري أن (حمدي مطر) قد تمنى، على امتداد سنوات حياته ونضاله (قائدا في “حركة القوميين العرب” ثم مؤسسا في “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”) تمنى الموت شهيدا عشرات المرات لكنه – مثلنا جميعا – كان أعجز من أن “يستقدم” الموت أو… أن “يستأخره”!

واليوم، في “ذكرى الأربعين” لرحيل (حمدي مطر) نجدها مناسبة مؤلمة، حد ألم الذبح من الوريد إلى الوريد، أو حدّ آلام الشهيد محمد أبو خضير الذي أحرقوه من الداخل والخارج. وهي مناسبة للوقوف في “حضرة الغائب”، ذلك “الإنسان، المناضل، النظيف/ الشريف” الحبيب (أبا سمير). فعلى مدى (47) عاما كاملة عرفته فيها عن كثب، وبعد أن خبرته في أوقات العسر وأوقات اليسر، ها إنني قد اختزلت شهادتي عن (حمدي) في النعوث الثلاث (الانسان، والمناضل، والنظيف/ الشريف) الواصفة له حق الوصف. فحين قابلته لأول مرة في العاصمة الأردنية في شهر حزيران/ يونيو من العام 1967 (ونحن بصدد تأسيس ما عرف لاحقا باسم “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”) لم أكن أعرف عنه سوى صفة (المناضل). وهي الصفة التي كان قد أكدها لي، قبل توجهي إلى عمان من بيروت، عملاقان نضاليان عريقان لا أشك إطلاقا في دقة وصفهما، المستندة إلى تجربتهما النضالية معه، ألا وهما الحبيبان الغاليان: الدكتور جورج حبش، والدكتور وديع حداد.

إذن، سمعة “المناضل”، المندغمة في تكوين (أبي سمير) كانت قد سبقته عندي. غير أنني، في غضون سنوات تقرب من نصف قرن أعقبت لقائي الأول معه، أدركت – مع الزمن – أن الصفة التي تسبق صفة “المناضل” في شخص (حمدي مطر) هي صفة “الإنسان”. وعن هذه، أشهد بان (أبي سمير) هو كتلة من المكونات والمشاعر الإنسانية التي تذهب (أبعد من الفلسطنة أو العروبة رغم القوة المذهلة لهذه المكونات والمشاعر في شخص وشخصية “حمدي”) مثلما هي تذهب (بعيدا حتى تلتحم عنده مع مشاعر ومواقف التعاطف مع الإنسان، وبخاصة المقهور سياسيا واقتصاديا واجتماعيا) فتجده حينا وقد اغرورقت عيناه بالدموع، أو تجده في حين آخر يبكي (وهو الذي لم يبك –ولو لمرة واحدة- في ثلاث عشرة حالة سجن خاضها). كذلك، تجد (حمدي مطر) يقاتل (حد الاعتقال أو حتى الموت المحتمل) دفاعا عن أخيه الإنسان، وبالذات إن كان فلسطينيا أو عربيا غير فلسطيني. وعن آخر مرة رأيته فيها يبكي، شاءت الصدف أن تكون قبل ما لا يزيد عن عشرة أيام سبقت موته. يومها، كان محفّز ذلك البكاء سؤال إنطلق إليه كما السهم فأصاب فيه وترا حساسا. كان السؤال/ السهم عن “أصعب لحظات سجنه” فكان أن تذكر واقعة سترد كاملة – فيما أعلم – في مذكراته التي كان، بالمناسبة، قد أنجزها قبل شهر من رحيله المباغت. وبالتتابع، لن أتحدث عن مكون وصفة “النضال” في شخص وشخصية (أبو سمير) لأن هذا الأمر، بالخصوص، هو الأمر المعروف عنه جماهيريا أكثر من أي مكون آخر أو صفة أخرى، وبما يسمح لي بالقول أن (حمدي) والنضال توأم سيامي لا حياة لأي منهما دون الآخر. ومع ذلك، فإن “الإنسان” المنزرع في أعمق أعماق (حمدي) جعله يتقبل، بصدر رحب، كل من أسهم في اعتقاله أو ضربه أو تعذيبه، بروح “رياضية”، مدركا بأن النضال في عالمنا يقتضي “دفع الثمن”، الأمر الذي جعله (وهو الإنسان الحق) ينسى فيغفر، بل ويضحك، من ذكريات الاعتقال، ومن ضمنها ذكرياته مع معتقليه الذي لا أعرف شخصا سواه مارس المداعبات مع ضاربيه (وأحيانا معذبيه) وهو الأمر الذي لا يحدث في أي بلد عربي – ولنعترف – سوى في الأردن. ثم إن “أبي سمير” الموهوب بسرعة البديهة “وسلاطة اللسان” العذبة (!!!) حرص على إبقاء مناكفاته في حدود “المناكفة الضاحكة”، ولو اللاسعة، سواء مع سجّانيه أو معتقليه، بل مع كل الخصوم السياسيين وجميع “الأعدقاء”!!!

أما مكوّن وصفة “الشريف/ النظيف” (نظافة “اليد والجيب”) عند (أبي سمير) فإن الأمر لا يحتاج من أحد إقامة الدليل عليه، أو حتى الحديث الطويل أو القصير عنه، لأن ذلك أكثر من معروف عنه أيضا، ولأنه يأتي منسابا مع كونه “الإنسان” الحق والمناضل” الأصيل. فهل يمكن، أصلا، أن يستقيم غير الشرف والنظافة مع من هو حقا إنسان ومناضل؟!! لكن، طبعا، يرد في “سجّل الشرف” الخاص بالانسان والمناضل والشريف (حمدي مطر) أنه قد صان، ثم حافظ، على امتداد مسيرته، على هذه المكونات/ الصفات فيه، مثلما صان وحافظ على “مناعته” في زمن صعب ولئيم، زمن كثرت فيه “فيروسات” الخيانة والانحراف و”ازدهرت” فيه غابات “الغرس الشيطاني” المتمثل أيضا بالاستبداد والفساد. لكن (أبا سمير) بقي شجرة ورد لا تذبل، في حديقة أشجارها معجونة بالمواقف والمشاعر الإنسانية/ النضالية/ النظيفة الشريفة. فلله درّك يا (حمدي مطر). لله درك.