الحرب على قطاع غزة: “حرب تحريك” للتسوية الأشمل؟

تنسف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة فرضيات، سادت طوال عقدين من الزمن، وأبرزها جهود عدة أطراف تحدثت عن رغبة إسرائيلية حقيقية في تحقيق التسوية! أما الحصيلة الراهنة لتلك الجهود فتؤكد أن الحكومة التي يترأسها (بنيامين نتنياهو) سعت إلى تصفية معسكر السلام الفلسطيني (بل والإسرائيلي)، واستغلت المفاوضات لوضع بنود تعجيزية جديدة على غرار طلب الاعتراف بيهودية دولة اسرائيل، ومضت في فرض أمر واقع على الارض بتوسيع الاستعمار/ “الاستيطان”، وتسريع خطوات تهويد فلسطين وبالذات مدينة القدس. وكان أبرز داعم محلي (لنتنياهو) وحكومته مجتمع إسرائيلي، 85% منه يؤيد الحرب على القطاع وقتل الأطفال والمدنيين، ويربي أبناءه على كراهية العرب والخوف من “السلام المنشود”!!

ومع ذلك، دعا عديد الكتاب والمحللين والسياسيين الإسرائيليين (وغيرهم) إلى ضرورة اغتنام الحرب على قطاع غزة باعتبارها نقطة تحول في مسألة تحريك عملية التسوية، خاصة مع أحاديث تؤكد أن الرئيس الأمريكي (باراك أوباما) عائد بقوة للمشهد الفلسطيني في ظل رغبة أمريكية لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي فور انتهاء الحرب. وفعلا، كان وزير الخارجية الأميركي (جون كيري) قد دعا إسرائيل والفلسطينيين إلى استغلال فرصة الهدنة من أجل المضي قدما باتجاه مفاوضات أوسع نطاقاً. وفي سياق تصورات إسرائيلية بارزة لما بعد الحرب على غزة، نجد (عاموس هرئيل) يكتب في صحيفة “هآرتس” مقالا يقول فيه: “في الجيش الإسرائيلي يلاحظون هذه المرة فرصة لاحراز تسوية جديدة في قطاع غزة قد تنطوي على فوائد لإسرائيل أيضا.. أصبحت إسرائيل التي هاجمت قبل شهرين فقط بغضب شديد اتفاق المصالحة بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس، تؤيد الآن توثيق هذه العلاقة باعتبارها خطوة ضرورية”. من جانبه، كتب (يوسي بيلين) في صحيفة “إسرائيل اليوم” مقالا أعلن فيه: “يجب أن تصاحب الهدنة عودة الى طاولة التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة الرئيس محمود عباس. ويجب أن يكون التفاوض عمليا وأن ينحصر في الخيار الممكن الوحيد الآن وهو تسوية تدريجية في الطريق الى تسوية دائمة في مرحلة بعد ذلك. لأنه يمكن، بلا أفق سياسي، أن نبدأ العد التنازلي نحو المواجهة العسكرية القادمة”. أما الكاتب (حيمي شليف) فقد قدم توضيحا لهذا النوع من التصور، قائلا: “المشكلة ستكون في المستقبل القريب مع الارادة الدولية في سياق استغلال ضعف حماس أو معاناة غزة لتقوية محمود عباس وكسر الجمود السياسي العام مع الفلسطينيين. هذا هو الثمن الذي سيُطلب الى اسرائيل أن تدفعه آخر الامر، لا من قبل الولايات المتحدة واوروبا فقط بل من قبل أصدقائها الجدد في المنطقة العربية”. ويضيف: “سيضغط الرأي العام في العالم العربي، فضلا عن الرأي العام في اوروبا وامريكا، منذ الآن لتعويض الفلسطينيين عن القتل والدمار اللذين مُنوا بهما واللذين سيتضح مقدارهما الكامل كلما ازداد الهدوء عمقا. وقد بدأت حكومات اوروبا تتحسس الطريق نحو ذلك، ولم ييأس وزير الخارجية جون كيري بعد – برغم إذلاله – وبرغم أنه سيضطر الى أن يعمل عملا صعبا كي يقنع الرئيس باراك اوباما الاستثمار من جديد في الدُمّل الاسرائيلي الفلسطيني”. أما الكاتب (بن كاسبيت) فيخلص، في مقال نشرته “معاريف”، إلى “كون المشكلة هي عند (نتنياهو) الذي لا يريد مفاوضات ولا اتصالات ولا تحالفات ولهذا لا يريد أن يحسم المعركة مع حماس حتى يبقى (فقط) مع الرئيس محمود عباس فيضطر (الأخير) الى عقد السلام معه بشروطه”. ثم استخلص قائلا: “لو أراد نتنياهو عمل شيء ما حقيقي في الشرق الاوسط، لبلور قول الـ “نعم” الاسرائيلية لمبادرة السلام العربية، بالتحفظات المرافقة بالطبع. يمكن لهذا أن يكون خطوة مدوية. لكن المشكلة هي أن نتنياهو يريد حكم حماس في غزة. مردوعة ومستضعفة، بالطبع. وخلاف ذلك، قد يحتل ابو مازن مكان حماس، ليصبح الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، وعندها أنا (بيبي) سأكون مطالبا بأن أدخل معه في مفاوضات حقيقية. عند نتنياهو، الأهم منع المفاوضات من حسم المعركة حقا مع حماس. هذه هي الحقيقة المعلنة. نتنياهو لا ينفيها. بل العكس”.

حتى وزيرة العدل (تسيبي ليفني) التي حاربت ضد (إيهود باراك) لمنع تسوية أيام العدوان على قطاع غزة 2008-2009، تسعى اليوم لاقناع (نتنياهو) بالبحث عن حل سياسي للأزمة في غزة (مع إيحاءات بخصوص آفاق التسوية الأشمل) فتقول (ليفني): “إلى جانب إنهاء العملية العسكرية من طرف واحد، ينبغي للعملية السياسية أن تكون متعددة الأطراف. وينبغي للولايات المتحدة، مصر، السلطة الفلسطينية، الأمم المتحدة والدول الأوربية الكبرى أن تكون حول القدر حينما تنضج الطبخة. أما حماس فلا. وبعد أن تنال مبادئ الخطوة رضا وقبول هذه الأطراف، يمكن تحويل الخطة إلى قرار ملزم من مجلس الأمن الدولي. وهذا سيكون إنجازا سياسيا سيخدم مصالح إسرائيل، مصر والسلطة الفلسطينية”. غير أن عضو “الكابينيت” (المجلس الوزاري الأمني المصغر في الحكومة الاسرائيلية)، الوزير (يعقوب بيري) فنجده واضحا “ساطعا” إذ يدعو: “إلى الخروج من أتون الحرب في قطاع غزة بمشروع سياسي لا يوقف الحصار فحسب، بل ينهي الصراع الاسرائيلي الفلسطيني والاسرائيلي العربي برمته، وذلك عن طريق إطلاق مبادرة مفاوضات إقليمية على أساس مبادرة السلام العربية تكون القضية الفلسطينية جزءا أساسيا فيها”.

في ضوء المفاجئة التي كبدتها المقاومة الفلسطينية للجيش الإسرائيلي، وامتعاض الرأي العام العالمي من الوحشية الإسرائيلية جراء العدوان، مع عجز إسرائيل عن حسم الحرب التي بدأتها أو إنهائها بشروطها في ظل تبني منظمة التحرير مطالب المقاومة، فهل تترك التصورات الإسرائيلية آنفة الذكر أي أثر داعم لتوجهات وزير الخارجية الأمريكية (وغيره من المسؤولين الأمريكيين والغربيين) بحيث تسعى الولايات المتحدة للاستفادة من الوضع الحالي بتطوراته الجديدة، فتقنع واشنطن تل أبيب بتخفيف الحصار على قطاع غزة، ووضع آلية جديدة لفتح المعابر مع العالم الخارجي، عبر حكومة الوحدة الوطنية التي قبلت بها واشنطن ضمنا بوصفها حكومة الرئيس عباس، وبهذا، تكون الحرب على غزة قد منحت الولايات المتحدة فرصة لتكون الأوراق بيدها لتحريك رؤيتها (ورؤية الغرب بعامة) لحسم الصراع الإسرائيلي/ العربي بتسوية لطالما أرادوها؟.