الحرب على غزة: “انكسار الحلم” الإسرائيلي؟

كثيرة هي الخسائر المباشرة لدولة الكيان الصهيوني جراء الحرب المستمرة على قطاع غزة، والمتمثلة في الخسائر البشرية العسكرية، الفعلية والمعنوية، وبخاصة مع ارتفاع عدد قتلى جنود جيش “الدفاع” (الذي طالما تباهوا بأنه “لا يقهر”) فأصبح يقهر بفضل العمليات النوعية التي تنفذها المقاومة الفلسطينية، فضلا عن الخسائر الاقتصادية في مجالات السياحة والاستثمار ناهيك عن خسائر سياسية، وأخلاقية، وإعلامية وبالذات على الصعيد الجماهيري العالمي. ولربما يكون أهم ما في الحديث اليوم عن الخسائر (غير المباشرة) أو الاستراتيجية الإسرائيلية مسألة ضرب “الحلم” الوارد في “الفكرة الصهيونية” المرتكزة على زعم جعل “إسرائيل جنة الله على الأرض التي تفيض أمنا واستقرارا ولبنا وعسلا”. يتكشف الواقع الإسرائيلي الحالي عن تسارع تعليم/ ترسيخ وترويج “عقلية القلعة”، القائمة على العنصرية والاستعلاء وكذبة “شعب الله المختار”، وعقلية “عقدة الماسادا” المفضية إلى انتحارهم بعد أن حاصرهم الجيش الروماني سنوات. واليوم، تحيط إسرائيل نفسها بجدران إسمنتية على الأرض، وأخرى نفسية تعشعش في العقلية اليهودية قوامها الرفض والخوف من الآخر (“الغريب”) الذي هو “الجحيم”‘ وإن الحل، دائما، يكمن في رفع جدران القلعة!! غير أنه في ظل الحرب على غزة، انقلب هذا التعليم الشاذ على رأس الدولة الصهيونية سلبا. فالحرص الزائد في الحفاظ على حياة اليهودي جعل الدولة تسعى جاهدة، وبصيغ مبالغ فيها، لإنقاذ يهودها (تحديدا) من أي إصابة، الأمر الذي خدم هدف المقاومة الفلسطينية، فانتشر الرعب والهلع وبات ثلاثة ملايين إسرائيلي يكثرون من العيش في الملاجئ هربا من الصواريخ. طوال السنوات العشر الماضية، شهدت هجرة اليهود الى “إسرائيل” تراجعا حادا مقارنة مع معدلات العقدين السابقين، بعد أن كانت تسعينيات القرن الماضي قد شهدت معدل هجرة يقترب من مئة ألف مهاجر سنويا. وقد أكد المكتب المركزي للاحصاء الاسرائيلي تراجع اعداد الهجرة اليهودية “القادمة” من 70 الف مهاجر يهودي، سنويا، خلال عقد تسعينيات القرن الماضي الى 22 ألف مهاجر فقط خلال 2013. بالمقابل، تفاقمت ظاهرة الهجرة المعاكسة بما يضيف إلى 800 ألف شاب وشابة من اليهود الإسرائيليين الذين يعيشون بصفة دائمة خارج “البلاد”، والذين لن يتشجعوا على العودة في ظل حالة “إسرائيل الراهنة”. وهذا كله، يكشف زيف الادعاءات الصهيونية بخصوص ارتباط اليهود ارتباطا عضويا “بأرض الميعاد”. فالهجرة المعاكسة هي ضربة للمشروع الصهيوني الاستعماري/ “الاستيطاني”، إذ يؤمن عديد اليهود أن أمنهم وأمن عائلاتهم أغلى من كل ما يمكن أن تقدمه الدولة الصهيونية، وأن الغرب يبقى الحاضن الآمن الأول لهم، وليس “دولة إسرائيل”. تقول افتتاحية لأسرة التحرير في “هآرتس” الإسرائيلية: “مشكوك جدا أن يكون في الحرب الحالية منتصرون. أما المهزومون فيوجدون فيها منذ الآن. فالصدوع العميقة التي ظهرت خلالها في النسيج الديمقراطي الإسرائيلي (العنف ضد اليساريين والليبراليين اليهود وفلسطينيي 48) من شأنها أن تبقى فيها لزمن طويل. هذا وضع خطير لا يمكن لأي انتصار في ميدان المعركة ان يغطي على هذا الضرر بعيد المدى”. وفي مقال مميز، بعنوان “كيف كسبت حماس: نجاح إسرائيل التكتيكي وفشلها الاستراتيجي”، تحدث المدير التنفيذي لمعهد إسرائيل (آرييل أيلان روث) عن بدء زوال ما كان يسمى “طبيعية” إسرائيل و”استقرارها”، وأضاف يقول: “بغض النظر عن كيف ومتى ينتهي الصراع الأخير بين حماس وإسرائيل، فإن هناك أمرين مؤكدين. الأول هو أن إسرائيل ستكون قادرة على ادعاء انتصار تكتيكي. والثاني هو أنها ستكون قد عانت من فشل استراتيجي”. وبعد أن يعدد الكاتب جملة من الخسائر المباشرة الإسرائيلية وبخاصة على الأصعدة الإعلامية والسياسية والاقتصادية، يختم بالقول: “في نهاية المطاف، سوف تذهب هذه الجولة لصالح الفلسطينيين. وينبغي أن لا يعمي التركيز على النجاح التكتيكي إسرائيل عن الأخطار التي تواجهها من هذه الهزائم الاستراتيجية المتكررة”. أما الكاتب (جلعاد اتزمون) فقد تحدث في مقال بعنوان “نهاية اسرائيل” عن أن: “اسرائيل لا تستطيع ان تكسب هذه الحرب ولا تملك جوابا عسكريا للمقاومة الفلسطينية. اسرائيل مجددا متورطة في جرائم حرب ضد المدنيين.. ان هزيمة جيش الدفاع الاسرائيلي في غزة يترك الدولة اليهودية بدون امل والمعنويات متواضعة. فاذا أصريت على العيش في ارض الاخرين فالقوة العسكرية عنصر مهم لتجاهل حقوقهم وطموحاتهم. لم يعد هنالك مستقبل لدولة يهودية في فلسطين فلربما عليهم البحث عن مكان آخر”.   لطالما روج مفكرو وقادة الدولة الصهيونية بأن “إسرائيل” هي النموذج للدولة الديموقراطية العصرية التي تعيش في “فيلا” وسط غابة تكثر فيها مستنقعات التخلف والرجعية والديكتاتورية العربية، وأنها باتت واحة الاستقرار الوحيدة وسط دول عربية أصبح غياب الاستقرار صفة ملازمة لها. غير أن هذا الأمر تغير مع تسارع الحروب على قطاع غزة، المقرونة بتعرية حقيقة الوجه الإسرائيلي البشع (احتلال فاشي عنصري أبارتايدي) مما يؤدي إلى سحب إسرائيل من مصاف الدول الديموقراطية إذ هي تتحول، تدريجيا، إلى بلد غير مستقر ارتفعت فيه نسبة المتوحشين من عصابات المستعمرين/ “المستوطنين”. وكم هي الكتابات الإسرائيلية والغربية المتنورة الكاشفة لما آل إليه الحال في إسرائيل وفي صورة العالم عنها، وفي كل هذا مكسب استراتيجي إضافي. إذن، “أرض الميعاد”، ذات الاستقرار والأمن والتقدم بكل المعاني العسكرية والاقتصادية والسياسية وغيرها، وهو “الحلم الصهيوني الكبير” الذي روجت له الحركة الصهيونية لاقناع يهود العالم به، بات يتلاشى من أعين وقلوب عديد اليهود، فيما أدار آخرون ظهورهم له بعد أن تبين لهم استحالة تحقيقه سوى بالحديد والنار، وبعقلية “عقدة الماسادا” التاريخية والخوف الأبدي من تكرار “الكارثة” التي وقعت في أربعينيات القرن الماضي، بما ينمي باستمرار عقلية اليمين الاستعماري الفاشي المنغلقة التي تفضي دوما إلى حالة من السعار يعيشها المجتمع السياسي الإسرائيلي تدفعه إلى الانزياح باستمرار بعيدا عن “الحلم الصهيوني” سابق الذكر، مكرسا حركة المجتمع والسياسة نحو مزيد من اليمين والتطرف بحيث أنه لا يرى العالم سوى عبر فوهة البندقية والمدفع ومنصات الصواريخ!!! وفي ضوء كل هذه التطورات، نؤشر إلى الضربات المستمرة للمقاومة التي سيؤدي تكرارها إلى انكسار “الحلم الصهيوني” الصلب، تماما كما يتكسر الصخر تحت “ضربات” نقطة الماء. وستتسارع عملية التكسير هذه كلما وجدت المقاومة الفلسطينية الحضن العربي (والاقليمي) الدافئ الداعم وهذا شرط لا غنى عنه للنجاح، فاسرائيل ليست دولة من كرتون، ولكنها أيضا ليست دولة من فولاذ لا يصهر.. ولا يقهر!!