لماذا تفتك الجريمة في مجتمع فلسطين 48؟

“الدولة الصهيونية” أبعد من أن تتعامل مع كافة “مواطني الدولة” على قدم المساواة أسوة بالدول الطبيعية في العالم التي تفصل بين الحفاظ على الأمن القومي ومحاربة الأعداء وحماية الحدود ممثلة بالجيش، وبين الحفاظ على أمن وأمان المواطنين والنظام العام الذي تتولى مسؤوليته الشرطة المدنية. ففي “الدولة الصهيونية”، لا فرق بين وحدات الأمن المختلفة، حيث تتلقى وحدات الشرطة تدريبا عسكريا، ووحدات الجيش تدريبا شُرطيا. ولقد ارتكبت الشرطة الإسرائيلية، من خلال وحدة “حرس الحدود”، مجزرة كفر قاسم، وهي الوحدة التي سرعان ما عملت في حرب حزيران 1967 تحت مظلة “جيش الدفاع”، فشاركت في بعض المعارك ونشطت في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ومعروف أنه، في الانتفاضة الثانية، لعب تشكيلان من تشكيلات الشرطة الجديدة: وحدة المستعربين “يماس”، ووحدة ما يسمى بمكافحة الإرهاب “يمام”، لعبتا دورا رئيسا في قمع هبة القدس والأقصى في أراضي 48، وذلك خلال الانتفاضة الثانية، وهي تتحمل المسؤولية المباشرة عن قتل الشهداء الفلسطينيين.

اليوم، دماء فلسطينيي 48 تنزف بغزارة في ظل عدم ثقة عميقة قائمة بين “الشرطة” والمجتمع العربي. فالشرطة الإسرائيلية في مخيلة وواقع فلسطينيي 48، جهاز قمعي يرى العربي عاملا من العوامل التي تمس بالنظام العام “للدولة”، ولا يقتصر تعاملها معه على كونه تعاملا مع “عدو” حين تقمع أعماله الاحتجاجية والتظاهرات والمواجهات التي تجري على خلفيات وطنية أو في عمليات هدم البيوت، بل وفي القضايا المدنية اليومية البسيطة. لذلك، تتقاعس الشرطة الإسرائيلية عن أداء “واجبها” في قضايا الجريمة ومعالجة فوضى السلاح في المجتمع العربي، وإلا كيف تسمح “الدولة” التي تدعي نهارا جهارا بأنها محاطة بالأعداء من الخارج ومن الداخل بهذه الكمية من السلاح في المجتمع العربي دون أن يكون مراقبا بشكل محكم؟!!! ثم، بات ثابتا أن نوعية الأسلحة المتطورة التي هي بحوزة بعض الفلسطينيين العرب، وأيضا لدى البعض الفلسطيني في العالم السفلي، هي نوعية غير متوفرة إلا لدى الجيش وقوات الأمن الإسرائيلية (وهي جميعها محصورة ومرقمة)!!!

نعلم أنه لطالما سعت الحكومات الإسرائيلية لاحتواء وإضعاف فلسطينيي الـ48، سياسيا وشعبيا، في محاولة لخلق وتوسيع حالة الأسرلة عندهم. لذا، فموضوع العنف والجريمة في المجتمع العربي يتعلق بسياسة الدولة الصهيونية تجاه العرب التي تضعهم على هامش المجتمع الإسرائيلي، بل هي تتعامل معه ليس فقط كمجتمع خصم وإنما كمجتمع معادي. فالمشهد الاجتماعي اليوم ينبئ عن كارثة اسمها “العنف وفوضى السلاح”. فعدد “ضحايا جرائم القتل في المجتمع العربي بلغ (73) بينهم (11) امرأة منذ مطلع العام 2019، فيما قُتل (76) مواطنا عربيا في جرائم قتل مختلفة، بينهم (14) امرأة في العام الماضي 2018”. ويُستدل من الإحصائيات المنشورة في الصحافة العبرية أن “ارتفاعا بنسبة 67% طرأ على عدد ضحايا جرائم القتل مقارنة مع ذات الفترة من العام الماضي، إلى جانب مئات الإصابات في جرائم إطلاق نار وطعن ودهس وغيرها”. وفي محاولةٍ للتغطية على “فشل” تعامل (أو بالأحرى، تعامي) شرطة الدولة الصهيونية مع تفشي الجريمة والعنف في المجتمع العربي، أرجع وزير الأمن الداخلي (غلعاد إردان) تفشي العنف إلى المجتمع العربي نفسه، مضيفا بعنصرية مشهودة له(!!!): “المجتمع العربي مجتمع عنيف جدًا جدًا، وهذا يتعلّق إلى أنه في ثقافتهم تنتهي الصراعات بسلّ السكاكين بدلا من المحاكم. في المجتمع العربي، بإمكان الأم الموافقة على أن يقتل ابنها ابنتها على خلفيّة قصّة حب”. وبخلاف تصريحات (إردان) العنصرية، ذكرت تقارير مسربة لضباط من داخل جهاز الشرطة (أوردتها “القناة 12” في التلفزيون الإسرائيلي) أن تعامل الشرطة الإسرائيلية مع الجريمة “متساهل وناعم يؤدي إلى مزيد من العنف بشكل عام”. وبحسب التقرير ذاته، فإن “الشرطة تجد صعوبة حتى في حماية نفسها من العنف والجريمة”! كما أقر التقرير أن “النظرة العربية تجاه الشرطة لا تزال سلبية”، ناقلا عن ضابط قوله إن “الشرطة تمتنع عن التدخّل في جرائم لا تتعلّق بإنقاذ حياة بشكل فوري وواضح”.

صحيح أن المجتمع العربي لا يستطيع معالجة العنف وفوضى السلاح بمفرده، بل إنه لن يسمح له حتى لو كان قادرا على ذلك. فذلك المجتمع لا يمتلك السلطة ولا القوة القانونية التي تملكها الدولة ومؤسساتها. ثم إن ما يفاقم الأمر يكمن في حقيقة تساهل أجهزة الدولة ومسعاها لتفكيك المجتمع العربي، حتى باتت العصابات تسعى لأخذ مكانة اجتماعية لتصبح حالة “طبيعية” في المجتمع العربي مع أن المطلوب هو العكس أي اتخاذ الحكومة الإسرائيلية قرارات ملزمة واعتماد خطة شاملة لمكافحة العنف المستشري. وفي هذا السياق، قال (أيمن عودة) عضو الكنيست ورئيس القائمة العربية المشتركة: “هذا الواقع ليس قدراً محتوماً، بل هو نتيجة مباشرة لعجز حكومي ولامبالاة مجرمة من جانب الشرطة. الحلول مطروحة ونحن نطالب بها منذ سنوات من على كل منبر ممكن: عمليات لفرض القانون، ومراكز شرطة لجمع السلاح، وميزانيات تعليم، هي التي ستوقف تفشي العنف. لقد طلبت القائمة المشتركة عقد جلسة طارئة للكنيست. وجمعنا تواقيع 65 عضو كنيست لمطالبة رئيس الحكومة بتنفيذ خطة منهجية لمحاربة الجريمة. مطالبنا لم تلق آذاناً صاغية”.

المطلوب إبقاء حالة الغضب مشتعلة، وتحويلها – كما يحدث هذه الأيام – من تحرك غاضب إلى حراك سياسي مع أفق اجتماعي/ تربوي/ أمني ومع أهداف تصعيدية، وبالذات في ضوء (بل ظلام) حقيقة أنه قبل أحداث تشرين الأول/ أكتوبر 2000، كان معدل القتلى العرب في “إسرائيل” مساو للمعدل في المجتمع اليهودي، واليوم بات 6 أضعاف تقريباً… وطبعا، كل هذا، في ظل غياب “الدولة” عن إنفاذ القانون في المناطق العربية كما هي تفعل في المناطق اليهودية.