والقدس تغلي، يعقوب زيادين: الفتى “المقدسي” الذي فقدناه… ونفتقده

أعوام طويلة مريرة مضت منذ فقدناك يا أخي وحبيبي فيصل الحسيني، يا “أمير القدس”. وأكثر من عام قد مضى منذ رحلت، يا صديقي الغالي “الفتى الأبدي”، يعقوب زيادين. واليوم، يطيب لي أن أطمئن كلا منكما أن القدس، زهرة المدائن، شرف العرب والمسلمين والمسيحيين، قد انتفضت نيابة عن الأمتين العربية والإسلامية ونيابة عن “فصائل فلسطينية” لم تفعل شيئا جوهريا للقدس، وغالبا معظمهم لم يفعل شيئا لعموم فلسطين. مالنا؟!!! فاليوم، حديثي هو عن “فتى القدس الأبدي”: يعقوب زيادين! لكن، طبعا، لا يمكن للمرء أن يكتب عن القدس دون أن يكتب عن فيصل الحسيني، مثلما هو مستحيل أن تستذكر القدس وفيصل… ولا تستذكر يعقوب.

أزعم أن كثيرين لم يفهموا تماما لماذا نجح يعقوب زيادين، العربي المسيحي، ابن الكرك (عاصمة الجنوب الأردني) في معركة الانتخابات في العام 1956، وأصبح نائبا عن القدس! فهم – فيما شاهدته في حفل إحياء الذكرى الأولى على رحيله – قد تحدثوا أساسا عن يعقوب الطبيب وخدماته المجانية لفقراء القدس، وعن الطبيب الشريف الذي يقدم أخلاق المهنة على “أخلاق البيزنز” التي تتحكم في عديد الأطباء هذه الأيام، ثم أفاض المتحدثون في استعراض نضاليته وشفافيته وصدقيته وحسن معشره وطيب حديثه… الخ. وطبعا، كل هذا صحيح في معرض الحديث عن الدكتور الطبيب زيادين.

غير أنني أرغب اليوم في إضافة ما أعتقد أنها عوامل موضوعية، غير ذاتية، عن شخص الحبيب يعقوب، أسهمت بقوة قبل أي اعتبار شخصي (على أهمية ذلك) في توفير السلّم الذي صعد عليه يعقوب زيادين إلى منصة مجلس النواب (البرلمان) الأردني. فالعوامل الموضوعية هي التي حقا وفرت للمرشح الدكتور زيادين ذلك السلّم ليصبح بمثابة الفرصة الأكيدة لجعله “نائب القدس”. ورغم كثرة هذه العوامل، فإن في طليعتها:

أولا: كان قانون الانتخابات الأردني يومها قانونا متقدما، يتيح الفرص ولا يحجمها، يجعل القوة في متناول الناخب فعليا وليس شكليا، ولا تحيط في آلية تنفيذ ذلك القانون الشبهات من بعيد أو قريب. وبشكل كبسولي: كانت تلك الانتخابات شفافة، نزيهة، و”غير مُفصّلة” لإنجاح أي جهة أو أي أحد بعينه أو إسقاط جهة أو أحد بعينه. وهذا ما أرى أن المملكة الأردنية تتجه صوبه هذه الأيام، بثقة، فيما آمل، بعد أن تجاوزت تجربة “الصوت الواحد” البائسة.

ثانيا: القناعات والمشاعر في ذلك الزمن الجميل كانت جد مختلفة عن ما نشهده هذه الأيام. فيومئذ، كنا نتحدث عن وحدة قومية (عربية أو سورية) أو وحدة أممية (شيوعية أو إسلامية). يومها، لم نتحدث عن: “قبيلة” أو “عشيرة”، أو “حمولة”، أو “منبت”، أو “أصل” عرقي أو إثني أو جندري!!! وعليه، كنا ننتخب المرشح/ الشخص بما يمثله من فكر وموقف وأخلاق وحزب، ولا نتوقف – ولو للحظة – عند السؤال عن دينه أو عشيرته أو منطقته أو “أصله وفصله” قبل حقبة أو قرن أو قرون من الزمن!!!

ثالثا: يومها، في ذلك الزمن الجميل، كان أهل القدس، وأهل عموم فلسطين، وأهل عموم الأردن، وأهل عموم الوطن العربي، يسألون عن “المناضل الفلسطيني” أي المقاتل/ المجاهد من أجل فلسطين حقيقة لا ادعاءًا. وكنا نعلم أن “الفلسطيني” هو من يعمل من أجل فلسطين، من “يعيش لها” وليس من “يعتاش عليها”!!! وأشهد، شهادة صادقة، أنه – عندئذ – كم من الأردنيين الأردنيين، والسوريين السوريين، واللبنانيين اللبنانيين، والمصريين المصريين، والمغربيين المغربيين… الخ، كانوا فلسطينيين أكثر من بعض الفلسطينيين. ذلكم أن الأساس الأساس هو من يناضل لإحقاق الحق في فلسطين وليس فقط لمن ولد فيها وتشرف بالانتماء الضيق لها! ففلسطين وقضيتها أوسع كثيرا، من عموم أبنائها، بل من أشرف أبنائها. وهي واسعة الصدر بحيث أنها تقدم من يخدم قضيتها، ولو كان من خارجها، على من لا يخدمها من أبنائها من داخلها!!! وهنا، يتساوى بالضبط ابنها المباشر فيصل الحسيني، وابنها بالالتزام يعقوب زيادين.

إذن، لهذا كله، نجح ابن الكرك، ابن شرق الأردن، ابن “الحزب الشيوعي”، في أن يكون ممثل القدس… فسقطت الجاهلية مثلما سقطت الجهوية والعشائرية والمناطقية والطائفية في ضربة واحدة. وطبعا، ما كان لكل ذلك أن يحدث لولا أن “الأداة” كانت شخص يعقوب زيادين: المناضل الأممي، المقاتل الفلسطيني، المنافح الأردني، المكافح العربي عن فلسطين وعن درتها القدس. ومعروف أن الشيخوخة لم تنل من “مقدسية” يعقوب زيادين وبقي فتى يافعا طوال الوقت. ومما لا شك فيه أن ابتسامته المعبرة أجمل تعبير عن طيبته الكاسحة قد لعبت دورا مؤثرا، مؤثرا حقا، في نجاحه. آه، يا أخي، ويا صديقي، ويا رفيقي يعقوب: كم أفتقد، كم نفتقد، تلك الابتسامة! كم نفتقدك!