حين يطلق (نتنياهو) النار على قدميه

بعد ما يشبه الإجماع العالمي على تثمين نجاح الدول الست في توقيع “الاتفاق النووي” مع إيران، لم يجد رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو) غير يهود أمريكا وطبعا أعضاء الكونغرس من الجمهوريين أساسا ليلجأ إليهم، علهم ينجحوا في إفشال المصادقة على ذلك الاتفاق، باعتبار أن الشعب الأمريكي في معظمه شعب بروتستاني متدين يشترك جزء مهم منه في عقيدته الدينية إلى حد بعيد مع العقيدة اليهودية التلمودية.

في كتاب أصدره الدبلوماسي الأمريكي السابق (دينيس روس) كشف النقاب عن أنه في العام 1996، قال الرئيس الأمريكي الأسبق (بيل كلينتون) لمساعديه ومستشاريه بعد لقاء مع (نتنياهو): “أنا لا أفهم هذا الشخص، لقد تحدث معي وكأن إسرائيل هي الدولة العظمى، ونحن في أمريكا، نعمل عنده”. (نتنياهو) واصل السياسة ذاتها مع الرئيس (باراك أوباما)، عبر تصعيد الضغوط على أعضاء الكونغرس الأمريكي لإجبارهم على رفض الاتفاق النووي، مطالباً يهود أمريكا بإقناع الشعب الأمريكي بمعارضة الاتفاق بين إيران والدول العظمى.

في مقال حديث كتب (شموئيل روزنر): “اوباما انتصر لأنه نجح في تمرير الاتفاق مع إيران. وخسر نتنياهو لأنه لم ينجح في محاولة كبح الاتفاق. من هنا يمكن القول إن “الايباك” اللجنة الشؤون العامة الأمريكية/ الإسرائيلية (أكبر منظمات الضغط اليهودية الصهيونية في الولايات المتحدة الأمريكية) قد خسرت. فقد عارض الاتفاق وحاول اقناع المُشرعين في الكونغرس للتصويت ضده أو على الأقل السماح بالتصويت عليه”. وقد عنونت “نيويورك تايمز” “مجموعة مؤيدة لإسرائيل تلقت هزيمة سياسية كبيرة” موضحة: “الهزيمة طرحت أسئلة صعبة حول مستقبل الايباك، فعلى مدى السنين اعتمد اللوبي في قوته السياسية على ولاء أشخاص من الحزبين، لكن الغطاء غير الحزبي تلاشى في الأسابيع الأخيرة”. وقال رئيس “المجلس اليهودي الديمقراطي القومي”، وأحد أبرز الشخصيات اليهودية في الحزب الديمقراطي الأمريكي (غيرغ روزنباوم) إنه “تلقى وزملاء له اتصالات هاتفية ورسائل إلكترونية وصفت موقفه المؤيد للاتفاق بأنه يشبه التعاون مع النازية الألمانية”. وأضاف (روزنباوم) في حديث مع موقع صحيفة “يديعوت أحرونوت” إن “الاتفاق النووي مع إيران تسبب بنقاش غير مسبوق بين اليهود الأمريكيين، وأن هذه المسألة قد تؤدي إلى “حرب أهلية” بين مؤيد ومعارض، في الأوساط اليهودية بأمريكا”.

ومن جهته، أوضح النائب الديمقراطي (ستيف كوهن) المؤيد للاتفاق، إنه “تعرض لهجمات شديدة من سكان ولايته وغيرهم على مواقع التواصل الاجتماعي، لدرجة التشكيك في دينه، وإطلاق اسم (كابو) عليه”، وهو المصطلح المستخدم لمن كان يقوم بدور المراقب على العمال في معسكرات الاعتقال النازية. وينقل تقرير عن (كوهين) بأن هزيمة “إيباك” لم تمن بمثلها منذ عهد (جورج بوش) الأب. وفي التقرير الذي كتبته الصحافيتان (كارون ديميرجيان) و(كارول موريلو) في صحيفة “واشنطن بوست” جاء: “سواء كان البيت الأبيض قد كسب المعركة لضمان مستقبل الصفقة مع إيران أم لا، فإن “إيباك” فقدت ادعاءها بتأثيرها المضمون على أعضاء الكونغرس في القضايا التي تتعلق بإسرائيل”. ويورد التقرير أن نائب مدير “جي ستريت” – اللوبي الليبرالي المنافس لـ”إيباك -، (دايلان وليامز)، قال: “ما تعلمه النواب من هذه التجربة هو أن المجموعات اليمينية المؤيدة لإسرائيل ليست مخلدة، وأنه يمكن قول (لا) لهم دون المعاناة من تبعات سياسية”. وتنقل الكاتبتان عن النائب الديمقراطي السابق (روبرت ويكسلر) قوله: “مشكلة نتنياهو المؤسفة هي أنه يفتخر بكونه إسرائيليا يعرف أمريكا جيدا، ولكن خطأه أنه يعرف أمريكا التي انتخبت رونالد ريغان رئيسا، ولا يعرف أمريكا التي انتخبت باراك أوباما رئيسا، وهما في الواقع أمريكيتان مختلفتان”.

وفي مقال بعنوان “مخادع أم أحمق؟”، أكد رئيس “كتلة السلام” وعضو الكنيست الأسبق (أوري أفنيري) حقائق مهمة: “هناك صدع آخر بدأ بين إسرائيل وبين جزء كبير من يهود العالم، وخصوصا في الولايات المتحدة. تدعي إسرائيل أنها “الوطن القومي للشعب اليهودي”، وأن جميع يهود العالم مدينون لها بالولاء بلا حدود. كما أن الماكينة الضخمة لـ “المنظمات اليهودية” تعمل كشرطة سياسية فعالة بشكل عجيب. ومن يجرؤ من اليهود على الاعتراض؟ لقد بدأ صدع آخر أيضا بين إسرائيل ويهود الشتات، وهو صدع ربما لم يعد بالإمكان إصلاحه. عندما يأمرهم نتنياهو أن يختاروا بين رئيسهم وبين إسرائيل، يختار الكثير من يهود الولايات المتحدة رئيسهم، أو ببساطة يختفون. بالنسبة للكثير منهم، وخصوصا الشباب، فقد تعبوا من دولة إسرائيل ببساطة”.

هذه المعاني/ الاستخلاصات جميعا وردت في أدبيات سياسية إسرائيلية، وكتابات صهيونية “معتدلة”، ومقالات وتقارير غربية سواء كانت أوروبية أو أمريكية لكن المجال يضيق، ها هنا، عن إيرادها. وتبقى الحقيقة البارزة هي أن رعونة وطاووسية (نتنياهو) التي عبرت عن نفسها بسياسات بائسة منقطعة عن الواقع الأمريكي قد تسببت في شروخ ليس بين إسرائيل والولايات المتحدة فحسب، بل داخل يهود الولايات المتحدة بل ويهود العالم. جهود (نتنياهو) المذكورة هي أشبه ما تكون بإطلاقه النار على قدميه. والمستقبل سيحكي عن كل ذلك في زمن ليس بالبعيد.