توفيق زياد.. فارس لم يترجل بعد

د. أسعد عبد الرحمن

اليوم، الخامس من تموز/ يوليو، لنا موعد مع “موت عتيق” ولا أقول “رحيل عتيق”. فالصديق الحبيب، والشاعر الكبير، والمناضل العنيد، توفيق زياد (أبا الأمين) – وهو داعية التجذر في الأرض – ما كان يطيق كلمة “الرحيل”! وقبل وفاة الكبير الكبير (توفيق) كان الاحتلال – كما هو معروف يباعد بيننا. وحين عبرت إلى فلسطين ضمن حركة المقاومة نهاية العام 1967، كم تطلعت إلى زيارة (أبي الأمين). غير أن الاحتلال الإسرائيلي اعتقلني قبل تحقيق تطلعي هذا، ثم أبعدني في نهاية العام عن الضفة الغربية (بعض ما تبقى من فلسطين التاريخية) فقطع الطريق على إمكانية لقائنا الذي كنت أتوق إليه، وبالذات في القلعة الفلسطينية/ العربية (مدينة الناصرة). لكننا عدنا فالتقينا ثم التقينا في صحارى الشتات حين كان هو يغادر إلى خارج فلسطين التي باتت محتلة وتحمل اسم “إسرائيل”!! غير أن (توفيق زياد) تحدى القوانين الإسرائيلية وانضم إلى رحلتنا السياسية إلى اليابان في وفد فلسطيني مشترك رأسه عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية عمر الصواني ورافقتنا أيضا المحامية المدافعة عن حقوق الإنسان الفلسطيني، المناضلة اليسارية الشيوعية اليهودية (فيليسيا لانجر).

          في تلك الرحلة الطويلة نسبيا، عرفت توفيق زياد عن كثب. كنت أعرفه جيدا – حتى قبل أن ألتقيه – كونه كان شاعرا لطالما غمرتنا أشعاره، عن بعد، بنسائم الوطنية الصادقة. وأيضا قبل أن ألتقيه، كنت أعرفه جيدا من كثافة متابعتنا لنضالاته الصاخبة من على منبر الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي حيث ما كان لصوت (يهودي أو غير يهودي) أن يرتفع فوق صوته. وكذلك، عرفته جيدا (قبل أن ألتقيه) وهو يصول ويجول، كما الأسد، في وسط بحر الجماهير العربية في “الداخل” الفلسطيني، مجسدا نفسه كمناضل سياسي استثنائي، ورئيس بلدية محبوب.

أما المفارقة الحزينة والموجعة فقد تجلت في حقيقة كوني حين انتهى إبعادي عن فلسطين في العام 1993، كان أول ما فعلته، بالتنسيق مع الحبيب الحبيب أمير القدس (فيصل الحسيني) أن ذهبت إلى مدينة حيفا على أمل أن يريني الصديق الغالي (أميل حبيب) قرية (طيرة حيفا) مسقط رأس جدي وأبي. وهكذا كان. وفي اليوم التالي، لم أضيع وقتا فقصدت مدينة الناصرة أساسا للقاء توفيق زياد. وما أن وصلت إلى مكتبه حتى أعلموني أنه غادر صبيحة ذلك اليوم في رحلة مهمة إلى ألمانيا. وهكذا حرمت من رؤية الأسد في عرينه، حرمت من رؤية (توفيق) في قلعته. والمفارقة الحزينة والموجعة أن ذلك الحرمان قد طال حتى اللحظة، إذ بعد أقل من شهر لقي (توفيق) مصرعه في الحادث المعروف (وكنت على سفر خارج فلسطين)، ولم أستطع سوى المشاركة في الناصرة في مهرجان إحياء ذكراه في اليوم الأربعين لوفاته.

نعم، في الخامس من تموز قبل عشرين عاما، رحل الشخصية الجماهيرية المحبوبة توفيق زياد وهو في قمة عطائه وكفاحه، وأحد رجالات الحركة الوطنية الفلسطينية وفرسان الشعر المقاوم. عشرون عاما مضت على رحيل ابن الناصرة، الذي عاش طيلة سني عمره في أعماق حياة الفلسطينيين السياسية داخل الوطن المحتل، وناضل من أجل حقوق شعبه، حيث وقف ضد سياسة الطرد والترحيل والتهجير والمذابح وسلب الارض. عشرون عاما مضت على رحيل المناضل الفلسطيني توفيق زياد الذي قاد إضراب أحداث يوم الأرض في 30 آذار/ مارس 1976، حيث تظاهر الآلاف من فلسطينيي الـ 48 ضد مصادرة الأراضي وتهويد الجليل.. وهو اليوم الذي أصبح يوماً كفاحياً للشعب الفلسطيني والشعوب العربية. عشرون عاما مضت على رحيل الرجل الذي ظل مستهدفا طيلة حياته، حيث رأى فيه المحتل الإسرائيلي واحدا من الرموز الأساسية لصمود الشعب الفلسطيني وتصديه لسياسات الحكومات الإسرائيلية ومقارفاتها، فتكررت الاعتداءت عليه وعلى عائلته بدء من أحداث يوم الأرض إلى أن تلتها محاولة صريحة في ايار 1977 قبيل انتخابات الكنيست لاغتياله لكنه نجا منها باعجوبة، مرورا بإضراب مجزرة “صبرا وشاتيلا” في العام 1982، وفي إضراب مجزرة “الحرم الإبراهيمي” 1994.

توفيق زياد انتمى مبكرا إلى ذات المدرسة التي انتمى إليها كل من محمود درويش، وسميح القاسم، وغيرهما من كبار شعراء فلسطين حيث انطلقوا – جميعا – من تجربتهم النضالية في أوساط الجماهير العربية في فلسطين المحتلة، وانحازوا إلى جانب الجماهير العريضة. وتوفيق زياد هو من جرب السجن المزدوج: معنويا، حيث عاش مع فلسطينيي 48 حالة من الغربة نتيجة الاستعمار/ الاستيطان الذي أراد اقتلاع الفلسطيني من الجذور ومحو تراثه وتدمير تاريخه، ثم أدخل إلى السجن، فعليا عندما رموه بتهم مختلفة نتج عنها مصادرة حريته في محاولة من دولة الاحتلال الصهيوني لكسر إرادته ومحوها.

لا يختلف اثنان على ابداع الشاعر توفيق زياد ومواقفه القومية والفكرية وعطائه النضالي والحزبي والنقابي. فهو مناضل ملتزم وشاعر استطاع بلغته البسيطة الوصول الى الشعب الفلسطيني أينما تواجد وتصوير معاناتهم وسردها في اطار حكائي ناقلاً أحاسيسه وتجاربه اليومية الى أشعار ملتزمة. مناضل جريء كل الجرأة، وشاعر ملتزم كل الالتزام بقضايا الوطن والانسان. صاحب الرسالة الهادفة الملتزمة بتكريس الوعي الوطني الجماعي بالهوية الأصلية للشخصية الفلسطينية، التي لا تكتمل ملامحها ما دام الشعب الفلسطيني تائهاً في منافيه، ومتشبثاً بأرضه:

“أنا ما هنت في وطني

ولا صغرت أكتافي

وقفت بوجه ظلامي

يتيماً، عارياً،

حافي

حملت دمي على كفي

وما نكست أعلامي

وصنت العشب فوق قبور أسلافي”

وتوفيق زياد – حقا – شاعر صادق تخرج الكلمة الشعرية منه عفوية نابعة من القلب والروح، أدرك غايات المحتل وآماله بتهجير فلسطين 48 من أهلها وسكانها الأصليين، وإلحاقهم بالشعب الفلسطيني اللاجئ في كل مكان ليقطعوا الطريق على كل أمل بالعودة. لكن الشاعر المناضل زياد رمى قفاز التحدي في وجه المحتلين الصهيونيين معلنا:

“هنا .. على صدوركم باقون كالجدار

وفي حلوقكم

كقطعة الزجاج  كالصبار

وفي عيونكم

زوبعة من نار

إنا هنا باقون

فلتشربوا البحرا

نحرس ظل التين والزيتون

ونزرع الأفكار، كالخمير في العجين

.. هنا .. لنا ماض .. وحاضر.. ومستقبل

.. يا جذرنا الحي تشبث

واضربي في القاع يا أصول”

بهذا الالتزام القائم على الوعي العميق والمسؤول تجاه القضية، تكونت لدى توفيق زياد ولأعوام كثيرة رؤية ثورية صافية وثابتة لأبعاد المعركة، رغم مرور 20 عاماً على فقدانه ورحيله، لا يزال توفيق زياد باقيا في وجدان الشعب الفلسطيني وذاكرته الجماعية، فارس لم يترجل بعد، منتصباً بقامته، يردد أعماله الشعرية: أشدّ على أياديكم، إدفنوا موتاكم وانهضوا، أغنيات الثورة والغضب، أم درمان المنجل والسيف والنغم، شيوعيون، كلمات مقاتلة، تَهليلة الموت والشهادة، سجناء الحرية وقصائد أخرى ممنوعة.