القدس: “عروس عروبتنا”؟!!!

يجعلون من القدس “عاصمة أبدية لدولة إسرائيل” وفقا لجوهر المشروع الصهيوني الديني والسياسي!! وبالمقابل، هي كذلك جوهر سياسي وديني ووجداني للعرب والمسلمين. وتدرك إسرائيل هذه الحقيقة فتسعى إلى نقضها ومواجهتها بكل مقارفاتها السياسية والأمنية والعسكرية، في محاولة لفرض الاستعمار/ “الاستيطان” والتهويد في “زهرة المدائن” كأمر واقع في مواجهة إصرار “كلامي”، حتى اللحظة، من العرب والفلسطينيين على استرجاع “مدينة السلام”، والحفاظ على طابعها الإسلامي المسيحي الأصيل، الذي تؤكده الوقائع والآثار والشواهد التاريخية. 

لقد سلطت أحداث الأيام القليلة الماضية الضوء على نهج سلطات الاحتلال المتجسد في مجموعة سياسات واجراءات عنصرية ضد فلسطينيي القدس منذ احتلال القسم الشرقي في 1967، بهدف تقليص عدد هؤلاء المواطنين وتهجيرهم خارج ديارهم، عبر تكثيف “الاستيطان” من جهة، وإيجاد ظروف معيشية قاسية من جهة أخرى، وممارسة قمع ممنهج، حتى باتت القدس أكثر “ابتعادا” عن محيطها الفلسطيني بسبب إجراءات الحصار والعزل والإغلاق المفروضة على المدينة، وبالذات بعد بناء جدار الفصل العنصري في محيطها الذي حولها إلى “غيتو” كبير تحيطه “المستوطنات” من الجهات الأربع. 

ﺘﺭﺘﻜﺯ ﺍﻟﻨﻅﺭﺓ ﺍﻹﺴﺭﺍﺌﻴﻠﻴﺔ ﻟﻠﻘﺩﺱ ﻋﻠﻰ ﻋﺩﺓ ﺃﺴﺱ ﻭﻤﺒﺎﺩﺉ، ﻤﻨﻬﺎ، ﺍﻟﺒﻌﺩ ﺍﻟﺩﻴﻨﻲ ﺍﻟﺫﻱ ﻴﺴﺘﻨﺩ ﻫﻭ ﺍﻵﺨﺭ ﻋﻠﻰ ﻨﻅﺭﻴﺔ ﺍﻻﺼﻁﻔﺎﺀ ﺍﻹﻟﻬﻲ ﻟﻠﻴﻬﻭﺩ، ﻭﻨﻅﺭﻴﺔ ﺍﻟﻭﻋﺩ ﺍﻹﻟﻬﻲ ﻟﻠﻴﻬﻭﺩ ﺒﺎﻟﻌﻭﺩﺓ ﺇﻟﻰ ﺃﺭﺽ ﺍﻟﻤﻴﻌﺎﺩ. فحسب ﻭﺠﻬﺔ ﻨﻅﺭهم، ﻓﻼ ﺍﺼﻁﻔﺎﺀ ﻭﻻ ﺃﺭﺽ ﻤﻴﻌﺎﺩ لليهود ﺒﺩﻭﻥ ﺍﻟﻘﺩﺱ، بالإضافة إلى ﺍﻟﺒﻌﺩ ﺍﻟﺴﻴﺎﺴﻲ، ﺍﻟﺫﻱ ﻻ ﻴﺤﻴﺩ ﻫﻭ ﺍﻵﺨﺭ ﻋﻥ الديني. ﻭﻤـﻥ ﻫﻨﺎ ﺠﺎﺀﺕ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ ﺘﺼﺭﻴﺤﺎﺕ ﺍﻟﺴﺎﺴﺔ ﺍﻹﺴﺭﺍﺌﻴﻠﻴﻴﻥ ﺘﺠﺎﻩ ﺍﻟﻘﺩﺱ ﻤﻨﺒﺜﻘﺔ ﻤﻥ ﻋﻤﻕ ﺩﻴﻨﻲ. ﻓﻤﺜﻼﹰ وزير الدفاع” (ﻤﻭﺸﻴﻪ ﺩﺍﻴﺎﻥ) ﻋﻨﺩﻤﺎ ﻭﻗﻑ ﺃﻤﺎﻡ ﺤﺎﺌﻁ ﺍﻟﺒﺭﺍﻕ ﻋﻨﺩ ﺍﺤﺘﻼل ﺍﻟﻤﺩﻴﻨﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺎﻡ 1967، ﻗﺎل: “ﻟﻘﺩ ﻋـﺩﻨﺎ ﺇﻟـﻰ ﺃﻜﺜﺭ ﺃﻤﺎﻜﻨﻨﺎ ﻗﺩﺴﻴﺔ ﻭﻟﻥ ﻨﺒﺭﺤﻬﺎ ﺃﺒﺩﺍﹰ”. وفي هذا السياق، يتضح أن خطط إسرائيل التهويدية للقدس بعيدة المدى، وترمي إلى إعادة تشكيل كل مكونات الأماكن الدينية والتاريخية في المدينة لتتفق مع الرواية الإسرائيلية التوراتية. ومن ضمن السياسات الإسرائيلية المنتهجة تأتي مسألتي التعويد والتسييس بالنسبة للقدس.

التعويد، هو حين تصبح، كما اليوم، الاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى والحفريات أسفله (لإثبات حقيقة زائفة بوجود “هيكل سليمان”) أمرا لا يحرك للعربي جفنا. فالاقتحامات الاسرائيلية للمسجد الأقصى، تتوالى يوميا، تارة من “المستوطنين”، وتارة من جيش الاحتلال، أو من الاثنين معا، وأيضا من السياح اليهود والأجانب. وفي مقابل ذلك، تزداد القيود على الفلسطينيين والعرب، التي تحول دون وصولهم إليه. بذلك، تقول إسرائيل للفلسطينيين وللعالم أجمع ان القدس جزء لا يتجزأ من سيادتها، وأنها عاصمتها الدائمة، وهي تريد عبر هذه الاقتحامات اثبات الدعاية اليهودية التاريخية، التي تزعم أن الهيكل موجود أسفل المسجد الأقصى. وفي ظل هذا الإدعاء الزائف، يتكاثر الحديث عن تكريس مبدأ تقسيم المسجد “زمانياً ومكانياً”: “زمانيا” عبر خلق نموذج الحرم الإبراهيمي في الخليل أي إيجاد “مواعيد لدخول اليهود إلى المسجد غير مواعيد دخول المسلمين إليه. “مكانيا” عبر تقسيمه بتوسيع مساحة حائط البراق بالاستيلاء على مساحات من باحات الحرم القدسي. والتكرار الإعلامي هذا، يهدف إلى تعويدنا على تقبل تغيير الطابع العربي والإسلامي والمسيحي للقدس وتحويله إلى طابع يهودي، تثبيتا لما قاله (تيودور هرتسل): “إذا حصلنا يوما على القدس، وكنت لا أزال حيا وقادرا على القيام بأى شيء فسوف أزيل كل شيء ليس مقدسا لدى اليهود فيها، وسوف أحرق الآثار التي مرت عليهـا قرون”، وهذه إشارة واضحة إلى المسجد الأقصى تحديدا.

أما التسييس، فنقول أن مسألة القدس ليست مسألة دينية عقائدية فحسب، بل مسألة: لمن السيادة السياسية عليه! وهذا مفهوم سياسي لا علاقة له بالديانات، بل هو يتمحور حول من له السيادة على القدس (القديمة والجديدة) والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة وغيرها من آثار إسلامية ومسيحية. فبعد شهرين فقط من احتلال إسرائيل للقدس الشرقية، أصدرت قانونا بضم القدس وإخراجها خارج أي إجراء تفاوضي، وتم تحويل فلسطينييها العرب إلى أجانب في أرضهم. ثم أقامت دولة الاحتلال لجنة وزارية لشؤون القدس كان من قراراتها، عدم وصول نسبة القاطنين العرب فيها إلى أكثر من 20% من السكان اليهود في عملية تطهير عرقي حقيقي. ومنذئذ، استمرت الحكومات الإسرائيلية برفض قرارات الشرعية الدولية، والإصرار على كون القدس “عاصمة أبدية لدولة إسرائيل”، وأن الأمر برمته غير خاضع أو قابل للتفاوض. كذلك، من خلال سياسة اقتطاع القدس الشرقية من مجموع الأرض الفلسطينية المحتلة وعزلها عن محيطها الطبيعي، فصلت إسرائيل شمال الضفة عن جنوبها وجعلت احتمالات قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة ذات سيادة أمرا غير قابل للتطبيق. هذا، علاوة على الاستراتيجية الصهيونية القاضية تركيز التفوق الديموغرافي لصالح اليهود في جميع ربوع المدينة المقدسة، ما سيقوض أي حل تفاوضي بشأنها. 

تتلخص “الحقيقة” لدى إسرائيل بأن “القدس الموحدة ستبقى العاصمة الأبدية للدولة الصهيونية”!! لذا تحاول إسرائيل باستماتة فرض الأمر الواقع على الأرض وإنهاء قضية القدس في هذه المرحلة الحساسة رغم أنها أحد أخطر وأهم قضايا الخلاف في عملية “التسوية”!!. ومصير المدينة (بشقيها الغربي والشرقي) يبقى اليوم حكرا على اسرائيل، تقرره وحدها. وقد ﻜﺎﻨﺕ ﺍﻟﻘﺩﺱ ﺒﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻔﻠﺴﻁﻴﻨﻴﻴﻥ ﻭﻤﺎ ﺯﺍﻟﺕ ﻭﻋﻠﻰ ﻤﺩﻯ ﺍﻟﻌﺼﻭﺭ ﺃﻤﺭﺍﹰ ﺤﻴﻭﻴﺎﹰ ﻭﺠﻭﻫﺭﻴﺎﹰ، ﻭﻫﻲ ﺃﺤﺩ ﺍﻟﻤﺤﺩﺩﺍﺕ ﺍﻷﺴﺎﺴﻴﺔ ﻟﻠﻬﻭﻴﺔ ﺍﻟﻔﻠﺴﻁﻴﻨﻴﺔ ﻭﻟﻠﺜﻘﺎﻓﺔ ﺍﻟﻌﺭﺒﻴﺔ ﻭﺍﻹسلامية. وما الأحداث الأخيرة، التي جاءت برهانا على فشل جهود “الأسرلة” وفق اعتراف أكثر من كاتب/ سياسي إسرائيلي، سوى اثبات ناصع وساطع على هذه الحقيقة. ورغم هذا الصمود/ الجهاد الفلسطيني فإن ﺍﻟﻤﺸﻬﺩ ﺍﻟﺴﻴﺎﺴﻲ العربي والمسلم ﻟﻤﺩﻴﻨﺔ ﺍﻟﻘﺩﺱ لا يزال ﻤﺸﻬﺩﺍﹰ ﻀﺒﺎﺒﻴﺎﹰ ﺘﺘﻘﺎﻁﻊ ﻓﻴﻪ ﺍﻟﻤﺼﺎﻟﺢ ﻭﺘﺘﻌﺩﺩ ﻓﻴﻪ ﻭﺠﻬﺎﺕ ﺍﻟﻨﻅﺭ ﻭﺘﻨﻌﺩﻡ ﻓﻴﻪ ﺍﻟﺭﺅﻴﺔ الوطنية والقومية والإسلامية السليمة، مكرسا حالة من التقصير السياسي والإعلامي والمالي (ناهيك عن العسكري) الفادح، وهي الحالة التي تذكرنا بقصيدة مظفر النواب واستخلاصه بأننا أدخلنا كل زناة الأرض إلى حجرة القدس التي لا زلنا نتغنى بأنها “عروس عروبتنا”!!!