عوامل ضد انتفاضة فلسطينية ثالثة… ولكن!

د. أسعد عبد الرحمن

رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو) غير معني بالتوصل إلى اتفاق “سلام دائم”، ناهيك عن “سلام عادل” مع الفلسطينيين. ورغم اقتناع العالم أجمع بمسؤولية حكومة (نتنياهو) عن انسداد أفق عملية التسوية، بات الفلسطينيون في موقف لا يحسدون عليه، وبخاصة مع تزايد الآراء التي تطرح السؤال التالي: ما فائدة المفاوضات مع عدم وجود ومشاركة الولايات المتحدة في الغرف المغلقة؟! بل يعلن آخرون بأنه ليس عيبا أن تعلن السلطة الوطنية الفلسطينية، ومن ورائها العرب، أن لا طائل من المفاوضات، وأنه آن الأوان لتغيير مجمل لعبة المفاوضات عبر إجراءات أكثر جذرية، وأنه على العالم إدراك عبثية استمرار المفاوضات بهذه الطريقة (فضلا عن عبثية التفاوض المستمر، ولو المتقطع، منذ أكثر من عشرين عاماً مع تراجع أوضاع الشعب الفلسطيني على الأرض). ويتساءل آخرون: “هل بات الشعب الفلسطيني أعجز من القيام بانتفاضة شبيهة بانتفاضة الأقصى أو سابقتها، وبالذات مع استمرار شلل المجتمع الدولي، وتوهان العالم العربي، ومعارضة السلطة الفلسطينية “العنف” باعتبار أنه لا يمكن البناء عليه إيجابا وأن التمسك باتفاقات “أوسلو” هو السبيل، فيما أحكمت حركة حماس وحكومتها المقالة في قطاع غزة قبضتها ومنعت إطلاق صواريخ على إسرائيل، سواء من قبلها (أو من غيرها من الفصائل) على إسرائيل تثبيتا لهدنة “الأمر الواقع” في القطاع؟!!

وحتى لا نكون ظالمين لأنفسنا، وللشعب الفلسطيني، نقول أن هناك عوامل ضد قيام انتفاضة فلسطينية ثالثة! ومن أخطر وأعقد هذه العوامل وجود الاحتلال الإسرائيلي وسيطرته على إيقاع الحياة وعلى المعابر وحركة التنقل، فضلا عن التنسيق الأمني الموجود منذ تشكيل السلطة الفلسطينية. وظاهريا، تحافظ “إسرائيل” على تقسيم وظيفي: فهي تسمح للوزارات الفلسطينية والبلديات بإدارة نظم التعليم والخدمات الصحية، وتوفير الأمن، وتشغيل الناس وإدارة برامج الخدمة الاجتماعية، ولكنها في الوقت نفسه تفرض قيودا عسكرية تمنع حركة الناس والبضائع وتجعل هذا التقسيم الوظيفي ذاته مستحيلا. ويتصل بالعامل ذاته، عملية تقطيع الأوصال في الضفة الغربية التي ينفذها الاحتلال الإسرائيلي على الأرض، علاوة على حصار غزة، بحيث يمكن اعتبار ما يقرب من أربعة ملايين مواطن فلسطيني في الضفة والقطاع في سجن كبير. وقد شملت هذه الإجراءات التعسفية وضع الحواجز العسكرية الثابتة على مداخل المدن، وإغلاق الطرق الرئيسية التي يسلكها المستعمرون/ “المستوطنون” الإسرائيليون أمام الفلسطينيين بالمكعبات الإسمنتية والأتربة وحفر الخنادق العميقة على عرض الشوارع، محولة بذلك المدن الفلسطينية في الضفة والقطاع إلى كنتونات معزولة بعضها عن بعض. وليس أخيرا، اقتراح اسرائيل ان يكون مسار جدار الفصل العنصري اساسا لمحادثات السلام بدلا من حدود عام 1967 التي يطالب بها الفلسطينيون. وبحسب ما اوردت صحيفة يديعوت احرونوت والاذاعة العامة الاسرائيلية، اقترح المفاوضون الاسرائيليون على نظرائهم الفلسطينيين ان يكون هذا الجدار الذي يقع 85% منه في الضفة الغربية ويؤدي الى عزل 9,4% من الاراضي الفلسطينية من بينها القدس الشرقية (بحسب الامم المتحدة) نقطة انطلاق المحادثات. كما لا ننسى قضم الأرض الفلسطينية وتسمين المستعمرات/ “المستوطنات” في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية التي  تشهد تهويدا في ظل تجاهل عربي واسلامي ودولي، فضلا عن محاولة اليمين الاسرائيلي المتطرف مناقشة اجراءات يريدون تطبيقها في موقع وداخل المسجد الأقصى من خلال شرعنة صلاة اليهود فيه، وتقسيمه زمانيا ومكانيا بين المسلمين واليهود وتسليم ادارته لما يسمى بوزارة الاديان الاسرائيلية والقيام بأعمال الترميم وفق قوانين وتعليمات تصدر من مؤسساتهم الاسرائيلية.

بالمقابل، وصل التنسيق الأمني بين سلطة الاحتلال الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية إلى أعلى مستوياته وكان نتيجته اعتقال خلايا ومجموعات للمقاومة، واغتيال بعضهم، بل وإحباط عديد العمليات التي استهدفت الاحتلال، ناهيك عن اتهامات لها بإحباط أي تحرك شعبي حقيقي ضد الاحتلال. يضاف إلى ذلك، “الانقسام الفلسطيني/ الفلسطيني” الذي بات عميقا مع مرور السنوات، في ظل تبادل الاتهامات والتحريض. وهو “الإنقسام” الذي يراكم الاستعصاءات الإستراتيجية الأمر الذي أثر سلبا على المشروع الوطني الفلسطيني وبات يطرح تساؤلات حول مستقبله من منطلق أن المرجعيات الدولية للتسوية وللمقاومة تقوم على وحدة الضفة الغربية وقطاع غزة. ومن ناحية عملية، ليس ثمة تسوية “مشرفة” ولا مقاومة “فاعلة” في ظل الانقسام، مما يعطل إمكانية إنجاز المشروع الوطني. نعم، لقد أضحى “الانقسام”، مع مرور الأيام، أشد خطراً على وحدة الفلسطينيين وتحقيق تطلعاتهم وحقوقهم المشروعة في إقامة دولة مستقلة.

كما أن هياكل منظمة التحرير الفلسطينية وعديد الأحزاب التي شاخت وتكلست، عامل مهم جدا لا يمكن تجاهله في إعاقة فرص اندلاع نار انتفاضة ثالثة. فالمنظمة أدت دورا ووظيفة وطنيتين بفاعلية جيدة في مرحلة معينة، والآن ضعف دورها كثيرا مع إدراكنا أن هذا الحال يتقاطع مع هدف الاحتلال بتصفية منظمة التحرير ويضرب المضمون الأساسي للمنظمة كمعبر عن وحدة الشعب الفلسطيني وتمثيله المشروع للشعب العربي الفلسطيني. وفي أعين عدد متزايد من الناس والمراقبين، وبمقدار ما يتعلق الأمر بالتنظيمات الفلسطينية، فإن بعضها قد شاخ، ومنها من أفلس سياسيا ونضاليا، فانتهينا إلى حالة جعلت عددا من فصائل الأمس “فسائل” لا جماهير لديها ولا أعضاء جدد!! وبعبارة أوضح نقول: في البدء كانت الفصائل حقيقية ومناضلة ولو أن بعضها كان زائدا ومزايدا!! وفي حين حافظ بعضها على نفسه، تحول البعض الآخر – من أسف شديد ودون أي شماتة – إلى الحالة الفسائلية المشروحة آنفا.

ورغم كل ما سبق من عرض وشرح لأبرز العوامل المانعة لانجاح انبثاق انتفاضة فلسطينية ثالثة، إلا أنها جميعا، وفي الوقت ذاته، عوامل تخلق توترا وضغطا شديدين محصلتها الدفع باتجاه تفعيل بناء انتفاضة، تماما كالبركان حين ينفجر أو التسونامي حين يكتسح، مع الفارق أن البركان أو التسونامي الإنساني صعب رصده وتستعصي التموجات داخله على أكبر العقول البشرية والالكترونية. فمن كان منا، مثلا، يعتقد بإمكانية الإطاحة بحكم معمر القذافي بهذه الطريقة الدرامية، وحتى الإطاحة السريعة سواء بالنظام في مصر أو تونس مع الفارق؟!! فالجماهير حين تنفجر… تنفجر!