مانديلا: الإنجاز الأكبر

د. أسعد عبد الرحمن

من زنزانته في سجن “روبن آيلاند” حتى معركته الاخيرة ضد المرض، شغل رحيل أحد عمالقة هذا الزمان (نلسون مانديلا) العالم بردود فعل أقل ما يقال عنها أنها مؤثرة للغاية. فبرحيله، يفتقد العالم الرجل الذي دحر العنصرية وأسقط نظام الفصل العنصري (الابارتايد) في جنوب إفريقيا (بلد الأعراق المتعددة). وقد كثف (مانديلا) طيلة فترة رئاسته مبادرات الصفح لتشجيع الغالبية السوداء وطمأنة الاقلية البيضاء. وعلى درب ذلك، تفاعل، بدبلوماسية معبرة، مع قادة النظام العنصري الذي ظلمه وشعبه: فقد زار رئيس الدولة الأسبق (بيتر بوتا) وشرب الشاي لدى (بيتسي فرفويد) أرملة مهندس نظام الفصل العنصري (هندريك فرفويد)، وأقام مأدبة على شرف رئيس أجهزة الاستخبارات ابان الفصل العنصري (نيتس برنارد) عند إحالته الى التقاعد، واستقبل (بيرسي يوتار) مدعي المحاكمة في 1963 التي قضت بارساله الى سجنه في “روبن آيلاند”. حتى أن (مانديلا) رد، بإفحام، على منتقديه الذين كانوا يأخذون عليه تقديم الكثير من المبادرات حيال البيض. وبهذا، أضحى الإرث السياسي الأساسي المباشر لـ (مانديلا) إنجاز المصالحة في جنوب إفريقيا، رغم اعتبار الكثيرين أنها مهمة مستحيلة في أمة مزقتها عقود من القمع العنصري ونظام (الأبارتايد) الشاذ. وبذلك، نجح (مانديلا) في جنوب إفريقيا، المثخنة بالجراح وتقيحات الظلم، في فرض عملية انتقالية سلمية نحو الديموقراطية، معلنا، في حفل تنصيبه رئيسا أول للبلاد، منتخب ديموقراطيا، في 1994: “حان وقت تضميد الجروح. آن أوان البناء”.

من إرث (مانديلا) الكبير تركيزه على (الغفران السياسي). ولقد تواكب ذلك مع السعي إلى المصالحة، وهو الدرس الأكبر الذي يجب فهمه فلسطينيا وعربيا مثلما تم فهمه عالميا. وفي الأساس، رفض (مانديلا) عقلية المغالبة، المقرونة بالعقلية والممارسات الإقصائية، فدفع ثمن ذلك غاليا حيث قبع في السجن مدة 27 عاما. ثم عاد ورفض، بعزيمة قوية، العقلية والممارسات الإقصائية عندما أصبح رئيسا للبلد، فأصر على رفض إقصاء “أعداء الأمس” وحاورهم وشاركهم في الحكم من أجل مصلحة الوطن. ولم يكن “التسامح” الذي دعا إليه (مانديلا) من البداية مجرد شعار مرحلي، بل كان نهجا تبناه، عزز فيه مواقفه في رفض كل أنواع الإقصائية وفي الترويج لكل أنواع التشاركية.

ورغم الكشف عن حجم الجرائم التي ارتكبتها الأقلية البيضاء ضد الغالبية السوداء في العقود الماضية، فقد قال (مانديلا) في وصيته الرئيسية لخلفه الرئيس (تابو مبيكي) وهو يتخلى لصالحه عن رئاسة المؤتمر الوطني الإفريقي عام 1997: “عليك الحرص حرصا شديدا على ألا تستغل منصبك للتخلص من خصومك، وعلى الالتزام بالأرضية المشتركة رغم خلافات الرأي”. وفي هذا السياق، جاءت رسالة (مانديلا) العربية التي وجهها في 31 تموز/ يوليو 2011 إلى، من أسماهم، “أحبتي ثوار العرب عموماً”، حيث قال: “إن المعضلة التي أقلقتني بعد خروجي إلى فضاء الحرية هي كيفية التعامل مع إرث الظلم لإقامة نظام عادل”. وأضاف: “خرجتم للتو من سجنكم الكبير. إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم. فالهدم فعل سلبي والبناء فعل إيجابي”. وحذر من الوقوع في فخ أن “الثورة لا يمكن أن تكتمل إلا بالتشفي والإقصاء. فمؤيدو النظام السابق كانوا يسيطرون على المال العام وعلى مفاصل الأمن والدولة وعلاقات البلاد مع الخارج. واستهدافهم قد يدفعهم إلى أن يكون إجهاض الثورة أهم هدف لهم في هذه المرحلة التي تتميز عادة بالهشاشة الأمنية وغياب التوازن”. وتابع، بوعي واقعي مذهل، ناصحاً: “أحبتي، إن أنصار النظام السابق ممسكون بمعظم المؤسسات الاقتصادية التي قد يشكل استهدافها أو غيابها أو تحييدها كارثة اقتصادية أو عدم توازن أنتم في غنى عنه الآن. عليكم أن تتذكروا أن أتباع النظام السابق في النهاية مواطنون ينتمون لهذا البلاد، فاحتواؤهم ومسامحتهم هي أكبر هدية للبلاد في هذه المرحلة، ثم إنه لا يمكن جمعهم ورميهم في البحر”. ورأى (مانديلا) أن عمل لجنة “الحقيقة والمصالحة” في بلاده التي جعلت “المعتدي والمُعتدى عليه يتصارحان ويسامح كل منهما الآخر” جنبت جنوب أفريقيا الحرب الأهلية والانقسام، وهي خطوة يجب على بلدان “الربيع العربي” الاقتداء بها”. غير أننا، بعد نحو عامين ونيف من تلك الرسالة، وبعد أن رحل صاحبها، تستمر عقلية الإقصاء ورفض التشارك مع ازدياد الفوضى غير الخلاقة والاقتتال العبثي في عديد البلدان العربية. هذا على الصعيد العربي العام.

أما على الصعيد الفلسطيني الخاص، ففي آذار/ مارس 2001، وجه (مانديلا) رسالة إلى الصحافي والكاتب اليهودي الصهيوني المعروف (توماس فريدمان) جاء فيها إن “الصراع الفلسطيني-الاسرائيلي ليس مسألة احتلال عسكري فحسب، فاسرائيل ليست دولة قامت في ظروف طبيعية وصودف أنها احتلت بلداً آخر عام 1967!! الفلسطينيون لا يناضلون من أجل دولة، بل لتحقيق الحرية والتحرير والمساواة، تماماً كما ناضلنا في سبيل الحرية في جنوب أفريقيا”. وأضاف: “حرَمَت اسرائيل ملايين الفلسطينيين من حريتهم وأملاكهم. أقامت نظاماً ينتهج التمييز العنصري وتغييب العدالة. سجنت وعذَبت آلاف الفلسطينيين منتهكة قواعد القانون الدولي. وشنت حرباً على المدنيين، وخصوصاً الأطفال”. لذلك، لا غرابة في هذا الموقف التاريخي للزعيم (مانديلا). أو ليس هو القائل في يوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني قفي 4/12/1997: “نحن نعلم (في جنوب إفريقيا) أن حريتنا ليست كاملة من غير حرية الفلسطينيين”!

والحال كذلك، يشعر الفلسطينيون بالحزن أكثر من غيرهم على فقدان (مانديلا)، ذلك أن بطل النضال ضد الفصل العنصري شهد انتهاء “الابارتايد” بينما ما يزال الفلسطينيون – يا عجبي – بانتظار “المصالحة” الفلسطينية الفلسطينية أولا (بعد أن “اختاروا” أن يكونوا “الأخوة الأعداء” داخل الشعب الواحد) وها نحن نجدهم (رغم كونهم قابعين تحت وطأة احتلال عسكري اقتصادي ونظام فصل عنصري إسرائيلي) يؤكدون – مع إخوانهم العرب!! – على العقلية والممارسة الإقصائية ويرفضون العقلية/ والممارسة التشاركية.. على عكس ما نادى به/ وطبقه (مانديلا)!! فهل نتعظ.. ونتعلم من “الإنجاز الأكبر” الذي صاغه (مانديلا) الذي طالما دعا – خاصة العرب – إلى عقلية/ ممارسة المصالحة على درب رفض عقلية/ ممارسة الإقصائية وترسيخ عقلية/ ممارسة التشاركية؟!!!!