عن الاغتيال السياسي… حالة ظافر المصري نموذجاً

عشرون عاما مضت ونحن ننتظر وقفة نفي صريح، أو اعتذار جريء، أو إدانة موثقة لعملية اغتيال جرت ضد شخصية نابلسية (بل فلسطينية) بارزة حيث “أعلن” مسؤوليته عنها “فصيل” أحمل له، بل يحمل له كثيرون، قدرا هائلا من الاحترام. أما المغدور، أو بالأحرى الشهيد في يقيني الثابت، فهو ظافر المصري الذي تجندل على أرض “نابلس” الباسلة في يوم ربيعي فلسطيني أخاذ في الثاني من مارس 1986. وأما “الفصيل” فهو “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”.

هل قلت “عشرون عاما مضت ونحن ننتظر”؟!! في الحقيقة، كثيرون من أحبتي في “الجبهة” وخارجها يعلمون أنني –وغيري بالتأكيد- لم نكن “ننتظر” بقدر ما كنا نعمل من أجل جلاء الحقيقة كاملة وبخاصة أن شعار “الجبهة” الذي نعتز ونفخر به كان ولا يزال: “الحقيقة، كل الحقيقة، للجماهير”. وفي سياق المساعي المبذولة لجلاء تلك الحقيقة المحددة، تحدثت، مرارا وتكرارا، إلى عدد من القادة الأبرز في “الجبهة” مؤكدا على معرفتي بحقيقة مركزية قوامها أن أسلوب الاغتيال ليس من سياسة “الجبهة” بل هو غير مقبول عليها. وحتى لو كان الأمر عكس ذلك، فإن من حقي (حقنا) –فيما أظن- أن أعلم (نعلم) حيثيات وظروف وقرائن عملية الاغتيال تلك التي استهدفت أخا حبيبا، و”ابن بلد” (حيث “تنبلستُ” جزئيا منذ عام 1956) علاوة على زمالة جمعتنا، وصداقة ربطتنا في منتصف الستينيات من القرن الماضي أثناء الدراسة في “الجامعة الأميركية في بيروت” حيث نشأت، أساسا، “حركة القوميين العرب” التي انبثقت منها، أساسا، “الجبهة الشعبية” لاحقا.

المسألة، إذن، مسألة جلاء للحقيقة. وفي هذا السياق، ثمة ثلاثة احتمالات:
1- إما أن تكون “الجبهة”، كجبهة، لم تقم بذلك العمل الاغتيالي، بل قام به فرد أو خلية بدون قرار مركزي، وعندئذ فإن ذلك الفرد أو تلك الخلية تكون قد خالفت الأصول التنظيمية ويجب محاسبته/ محاسبتها! أما السكوت عن مثل هذا التجاوز من قبل “الجبهة” فإن فيه إساءة لها… وقطعا إساءة للشهيد… وزوجته وأبنائه وعموم عائلته وأحبائه وأصدقائه ومعارفه بل وعموم الشعب العربي الفلسطيني.

2- وإما أن تكون “الجبهة”، كجبهة، قد قامت بالعمل –مع سبق الإصرار والتعمد- لأنها رأت في المرحوم “ظافر” –لا قدر الله ولا سمح- “عميلا” تتوجب تصفيته! وفي هذه الحالة، نسأل السؤال المركب: منذ متى أصبحت “الجبهة” مع نهج الاغتيالات؟! وما هي القرائن المؤيدة “لعمالة” ظافر؟ ومن يعطي أي فصيل حق الاتهام و”المحاكمة” وإصدار القرار وتنفيذه بدون أصول قضائية (عادية أو حتى ثورية)؟ وفي هذا السياق، أقول شخصيا، وأكرر ما سمعته من كثيرين: إن “ثبتت” –بالدليل القطعي الدامغ- عمالة ظافر (وهو قطعا بريء منها… حتى يُدان) فإننا –على الأقل بعضنا- ليس فقط، لن نستنكر، وربما –بعضنا على الأقل- قد نتجاوز مسألة غياب الأصول القضائية العادية ونقبل بالأصول القضائية الثورية مع أنها خاصة بفصيل واحد من فصائل منظمة التحرير وليس من مؤسسة “القضاء الثوري” للمنظمة. بل إنني –في حالات فلسطينية بل عربية مشابهة- سمعت مباشرة أو قرأت نقلا عن الأبناء والأحفاد (وعموم الأقرباء) من رد على عمليات الاغتيال في الشارع الفلسطيني (والعربي) بالقول: إن ثبت أن أبانا (أو قريبنا) عميل فنحن نبارك الاغتيال… رغم غياب الأصول القضائية العادية… لكن، يتابع هؤلاء قائلين: نحن نطلب الدليل القطعي الدامغ!

3- وإما أن تكون “الجبهة”، كجبهة، قد اتخذت قرارها (أو تبنت قرار فرد/ خلية فيها) ثم ثبت خطأ ذلك القرار! وفي هذه الحالة، نقول: إننا نعلم أن “الجبهة الشعبية” تملك من الأخلاق والجرأة ما يدفعها للاعتراف بالخطأ والاعتذار (وإن كان ذلك لن يعيد “ظافر” إلينا أو لعائلته) لكنه حق من حقوق عائلة وأهل وأحباء وأصدقاء ومعارف “ظافر”، بل إنه حق لعموم الشعب الفلسطيني ولحركة “فتح” التي تبنت “ظافر” عضوا فيها وشهيدا من شهدائها منذ وقعت الواقعة! وسواء كانت “ذريعة” الاغتيال قبول “ظافر” وصحبه قيادة بلدية نابلس في ذلك الوقت، أو التنسيق مع الأردن، فإن على الحكم المنصف الإدراك (بدون حاجة لادعاء “الحكمة بأثر رجعي”) أن ذلك “القبول” لم يكن قرارا ذاتيا وإنما تنفيذا لقرار اتخذته حركة فتح (وبخاصة أمير الشهداء جهاد الوزير– رحمه الله رحمة واسعة)
وإذ أطلق على “ظافر” تعابير “أخ حبيب” فإنما أتحدث على هدى القاعدة المعروفة: “رب أخ لك لم تلده أمك”! وإن تحدثت عن صداقتي معه، فإنما أتحدث على أساس أن “الصداقة كنز لا يفنى”! وإن تحدثت عن محبتي له، فإنما أتحدث عن “ظافر” الإنسان/ الإنسان المتجسد فيه والذي جعله يحظى –في أوساط واسعة- باسم “حركي” هو: والد الفقراء! والمسألة هنا –كما تلاحظون- ليست مسألة عواطف لا معنى لها! فهذه عواطف نبعت من حقيقة أن “ظافرا” كان –أكرر- إنسانا بكل ما في الكلمة من مضمون، وكان معطاء بكل تواضع لأنه كان، أصلا، كريما بلا حدود، وخلوقا حتى الإدهاش! ولمن لا يعرف أو يريد الاستزادة، أو لمن يريد التأكد كي يطمئن قلبه، أو لمن يزعم أنه “يعرف” غير ذلك،، نقول له: اسأل عنه من كان به عليما… أي عموم أهل نابلس بل والناس/ الناس خارجها.

واليوم، إذ أكتب ما أكتب (ويشهد الله والوطن بقسم معظـّم مغلـّظ أن لا أحد من أهله قد طلب هذه الشهادة أو علم بها قبل نشرها) فإن ذلك ولأكن صريحا- ليس فقط حبا بظافر (وهو حبيب حبيب حبيب) وليس فقط حبا بالجبهة (التي خبرتها وعرفتها منذ كانت مجرد فكرة) وليس فقط حبا بضرورة تفعيل شعار الحقيقة، كل الحقيقة، للجماهير(وهو شعار أثير عندي) وليس فقط كرها مني بأسلوب الاغتيال بالمطلق (فهو أسلوب العاجز الظالم)… وإنما حبا في إعلاء نهج القضاء الذي إن لم يعلَ شأنه في فلسطين (وعموم الوطن العرب كما هو الحال في العالم المتحضر) فلن تكون لنا الدولة التي ننشد، بل ولن تقوم لنا قائمة. كما أكتب لأن الأوضاع في فلسطين -هذه الأيام- مفعمة بالاحتقان بمختلف أنواعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل والنفسية. وكذلك، لأن الظاهرة/ الفضيحة التي أسميناها الفلتان الأمني مرشحة أكثر من أي وقت مضى للتوحش والانفلات من جديد لا سمح الله ولا قدر. وفي نهاية المطاف، يجب ألا نرسي تقليدا بعدم التساؤل و/ أو المساءلة عن عمليات الاغتيال الفلسطينية/ الفلسطينية إذ أن مثل هذا الحال مثله مثل الماء القاتل يبدأ بقطرة، ثم يصبح سيلا… ثم يأتي الطوفان… والعياذ بالله!