الذكاء الشيطاني في برنامج “الخدمة المدنية” في إسرائيل

من أهم المخططات المطروحة إسرائيليا في السنوات الأخيرة، إضافة إلى “تهويد الأرض”، مشروع فرض “الخدمة المدنية” على الشباب العرب والذي تتمثل خطورته في “تهويد” فلسطينيي 48 (كفرد وجماعة) وجرهم بعد ذلك الى الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي. ومن المعلوم، أنه في العام 2000، منح مؤتمر هرتسليا الاستراتيجي أهمية خاصة (للبعد الديموغرافي). وقد أكدت توصيات هذا المؤتمر الإسرائيلي، السنوي، على ضرورة تهويد الجليل والمثلث والنقب لحفظ هوية الدولة، ودراسة إمكانية منح العرب الاختيار بين المواطنة الإسرائيلية الكاملة وبين المواطنة الفلسطينية!! وفي مؤتمر العام (2003)، كشف (أرييل شارون) عن تكليفه بعض الجهات المختصة بشؤون الأمن القومي الإسرائيلي بدراسة وبلورة تصور عملي لإمكانية شمول فلسطينيي 48 في “الخدمة الوطنية الإلزامية”. يومها، تحدث (شارون) في تلميح واضح موجه إلى العرب لحسم الولاء عند الحديث عن الحقوق، حيث قال: “مهمتنا جميعاً هي تصميم شكل إسرائيل اليهودية الديموقراطية.. دولة يسود فيها توزيع العبء ومنح الحقوق، وتحميل كافة القطاعات الواجبات بواسطة خدمة وطنية بشكل أو بآخر”!!!

 

منذئذ، تحاول الحكومات الإسرائيلية غرس “روح الانتماء” للدولة الصهيونية في نفوس الجماهير العربية. ونجاح إسرائيل في هذا المشروع يحقق لها مكاسب كثيرة على المستوى القومي العام: فبعد فشل الحكم العسكري وسقوط مبدأ التعايش بين (الشعبين)، تأتي “الخدمة المدنية” – في نطاق الذكاء الشيطاني الإسرائيلي – مغلفة ليس بالتهديد والوعيد فقط، وإنما بمحفزات وإغراءات وطروحات تخاطب الشخص المتطوع بصورة شخصية. فمن المأمول إسرائيليا أن المتطوعين الفلسطينيين في هذه “الخدمة”، التي تستمر بين عام أو عامين، سيشعرون بنوع من الإنتماء للدولة الصهيونية ومؤسساتها ولو بدرجات ونسب متفاوتة. ولإنجاز ذلك، تسوّق إسرائيل “الخدمة المدنية” اليوم من خلال التركيز على المكتسب الفردي للافراد في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية وسيطرة النزعة الفردية عند البعض. وهذه “الخدمة” تعبير عن مخطط يدعو الشباب الفلسطيني للتطوع ليكوِّن قاعدة واسعة من “الخادمين”، ثم لاحقا يفرض عليهم – إسرائيليا – قانون الخدمة الإجبارية.

مصطلح “الخدمة المدنية” براق من حيث أنه يحمل، منذ الوهلة الأولى، معان “إيجابية” مما قد يغري بعض الشباب العربي على الانخراط بها باعتبارها برنامجا بعيدا عن الخدمة العسكرية أو خدمة “الدولة اليهودية”!!! ومن جانب آخر، يتم “تجميل” الوجه البشع لهذا البرنامج من خلال مجالات وأماكن أداء الشباب العربي “للخدمة المدنية” وهي في عمومها أماكن ومجالات شعبية وجماهيرية “مقبولة” على النفس، كلها “إنسانية” جذابة من نوع التطوع للعمل في: الرفاه الاجتماعي، المستشفيات، رعاية الشباب، مساعدة العائلات وكبار السن، التربية، الجمعيات، استيعاب الهجرة، صناديق المرضى، المحاكم، الأمن الداخلي (الشرطة)، التربية الخاصة… الخ!!! كذلك، قد ينخدع بعض الشباب بالشعارات التي تخاطب الذات الخاصة، من باب المصلحة الشخصية. فالدولة الصهيونية توظف الأوضاع الاقتصادية والفقر والبطالة التي يعانون منها في خدمة مساعيها لنشر “الخدمة المدنية” في الوسط العربي. ومما أصبح جليا، تركيز إسرائيل على العنصر النسائي لكونه الحلقة الأضعف مستغلة ظروفهم العائلية والمادية. فالفتيات العربيات يعانين التمييز المضاعف من الدولة وأجهزتها لكونهن جزء من الأقلية العربية الفلسطينية، ومن ناحية أخرى من مجتمعهن العربي الذي يميز ضدهن لكونهن نساء ويمارس عليهن التضييقات، خاصة حين نعلم أن نسبة النساء العاملات في المجتمع العربي في “الداخل” الفلسطيني هي: 19% فقط، وأن 40% من الاكاديميات العربيات عاطلات عن العمل.

إن عامل نقص الوعي لدى بعض اليافعين العرب بالأهداف الحقيقية “للخدمة المدنية” سلاح آخر خاصة مع التركيز على اشتراط الخدمة على جيل (17-21). هذا فضلا عن المحفزات والعروض المخصصة للمتطوعين. لذا، فإن طرح “الخدمة المدنية” يأتي كوسيلة لتقريب الشباب، على نحو غير مباشر وتدرّجي بطيء، من الجيش والشرطة والأطر الأمنية الإسرائيلية الأخرى، على قاعدة تهيئة الظروف لقبول الشباب العربي مبدئياً بضرورة خدمة الدولة التي يعيشون فيها، بعد كسر الحاجز النفسي لدى أولئك الذين يتحسسون من هذه “الخدمة”!!!. ومما يعزز هذه المساعي كون “الخدمة المدنية” لا تقتصر على “الخدمة” فحسب أي (الحراسة أو العمل في المستشفيات أو خدمة موظفي المؤسسات الرسمية أو السلطات المحلية) وإنما تتعداه في أهدافها نحو بناء جديد لشخصية المتطوعين والمتطوعات من  خلال عمليات غسيل الدماغ عبر المحاضرات والندوات والأيام الدراسية، الرحلات والمعسكرات، وإجراء دورات استكمال إما لتحسين مستوى المتطوعين اللغوي أو إكتساب مهارات وتعليم المتطوعين مصطلحات ومفاهيم (غير عربية) جديدة على أمل أن تكون نتيجة ذلك نسيان هؤلاء لكثير من موروثهم الديني والتاريخي والوطني، وترسيخ مفاهيم ومصطلحات أخرى (إسرائيلية وصهيونية) مكانها. وحقيقة كون “الخدمة المدنية” خطوة إسرائيلية أولى وماكرة على طريق الخدمة العسكرية، تتجلى في جعلها موازية تماماً للخدمة العسكرية من حيث المخصصات والمحفزات إذ يحصل كل متطوع أنهى “الخدمة المدنية” على شهادة إنهاء موازية لشهادة إنهاء الخدمة العسكرية، وتتعامل الوزارات والدوائر الرسمية مع من أدوا “الخدمة المدنية” من حيث فرص التشغيل، تماماً كمن أدوا الخدمة العسكرية حسب القانون.

إن ضعف الإقبال على “الخدمة المدنية”، وطبعا قبلها العسكرية، يأتي من باب شعور فلسطينيي 48 بعدم الإنتماء لدولة رموزها أصلاً لا تخاطبهم ولا تستجيب لأحلامهم وآمالهم، لا بل ترى أن غالبية هذه الرموز تحض على استهداف العرب الفلسطينيين. مثال ذلك النشيد الوطني (هتكفا)، الذي يخاطب أذهان وعواطف اليهود فقط. كذلك، كيف يمكن للمواطنين العرب أداء “الخدمة المدنية في إسرائيل” في ظل سياسة هدم المنازل والبيوت العربية، وعدم الاعتراف بقرى وتجمعات سكنية كانت قائمة قبل قيام الدولة الصهيونية، ومصادرة الأراضي والاستيلاء عليها، والتمييز في الميزانيات المخصصة للسلطات المحلية والبلدية العربية وفي المخصصات والرفاه الإجتماعي وفي التوظيف، وسياسة التهجير/ الترحيل الداخلي وتجريف الأراضي. لذا، من الطبيعي أن لا يعترف العرب بدولة لا تعترف بحقوقهم ولا بهم كمواطنين متساوين مع اليهود!!! ومن هنا، ضعف درجة التجاوب العربي مع برنامج “الخدمة المدنية” الإسرائيلي. لكن الخوف، كل الخوف، من احتمال ارتفاع تلك الدرجة مع قادم الأيام، وهو الأمر الذي يحفز المجتمع السياسي/ الحزبي والأهلي لفلسطينيي 1948 على مزيد من التوعية ضد هذا البرنامج ومقاومته.