“طريق الحرير”: قديما… وحديثا

بعد أن كرست نفسها رائدة عالمية على المستوى الاقتصادي، نجحت الصين في استثمار مواردها الهائلة لإنشاء بنية اقتصادية تربط دول العالم بحيث تشكل بكين عصبها الأساسي. ولعل من أكبر تجليات التطلعات الصينية استراتيجية “الحزام والطريق” التي هي، بكلمات أخرى، “طريق الحرير القديم في قالب جديد” ضمن استراتيجية القوة الناعمة الصينية، التي تعيد النفوذ الصيني إلى مناطق واسعة من العالم، وتمكين شبكة تجارتها ونفوذها في الشرق الأوسط وفي آسيا (ولاحقا في أوروبا أيضا) من خلال شبكة طرق، وموانئ، ومطارات، ومشاريع البنية التحتية، وذلك لتعميق الترابط بين الصين والاقتصاد العالمي، وخلق نموذج جديد من التعاون الإقليمي والدولي.

بطبيعة الحال، تواجه الصين صعوبات وتحديات تقف أمام إنجاز هذه الاستراتيجية، القائمة على مبدأ “طريق الحرير”: تلك التسمية التي أطلقت على مجموعة الطرق المترابطة التي كانت تسلكها القوافل والسفن قديما بين الصين وأوروبا بطول 10 آلاف كيلومتر. ويومها، كان الحرير الصيني يمثل النسبة الأكبر من التجارة عبر ذلك الطريق صاحب التأثير الكبير في ازدهار كثير من الحضارات القديمة، مثل الصينية والمصرية والهندية والرومانية، لكنه توقف عمليا كخط ملاحي للحرير مع حكم العثمانيين مدينة القسطنطينية.

اليوم، تواصل الصين محاولاتها إعادة فتح هذا “الطريق”، عبر الانفتاح على العالم ضمن رؤية خاصة لمفهوم العلاقات الدولية قائمة على التعاون والشراكة (والبعض يقول الهيمنة)، تعبر من خلاله عن حضورها وقيمها ومطامحها السياسية والاقتصادية. ولقد بدأته مع مطلع تسعينيات القرن الماضي عبر إنشاء جسور اخترقت القارات ووصلت عدداً من الدول بعضها ببعض، ومن بينها ما عرف بالجسر البري الأوروبي الآسيوي، الذي يصل بين الصين وكازاخستان ومنغوليا وروسيا ويصل إلى ألمانيا بسكك حديدية. لكن الصين، بالمجمل، تعمل على عدة مسارات برية وبحرية وحتى رقمية، لخلق نظام بديل للعولمة الغربية وطريقة إدارة الاقتصاد الدولي، وتعزيز وتكثيف التعاون بين قارات العالم. وفي أيلول/ سبتمبر 2013، وخلال زيارته الى كازاخستان، أعلن الرئيس الصيني (شي جين بينغ) عن خطة لتأسيس طريق حرير جديد يصل الصين بأوروبا ضمن خطة حملت اسم “حزام واحد ـ طريق واحد”، بين 68 دولة باستثمارات تراوح التقديرات بشأن قيمتها بين 4 و8 تريليونات دولار، حيث إن الخطة، الواعدة جداً على المستوى الاقتصادي، لاقت تجاوباً وإقبالاً على المشاركة فيها من قبل الدول المطلة على هذا الخط، وفي مقدمها دول منطقة غرب آسيا.

والحال كذلك، كان طبيعيا أن يثير هذا التوجه الصيني مخاوف الولايات المتحدة، التي ترى من طرفها أن الاستراتيجية الصينية تعكس رغبة في الاستئثار بالنظام الاقتصادي الدولي، فيما يرى المعارضون في القارة الأوروبية (بالذات فرنسا وألمانيا) أنها محاولة صينية لخلق انقسامات داخل القارة الأوروبية وبالتالي السيطرة على اقتصاد القارة وسياساتها بما يحقق أهداف وطموحات الصين. كما ترى الهند في الاستراتيجية الصينية مساسا بسيادتها خاصة في العلاقات والاتفاقيات الصينية/ الباكستانية، مستندة على المخاوف السياسية بسبب العلاقة السياسية المتوترة مع باكستان. هذه “المقاومات” والمساعي لإفشال الخطة الصينية تطرح تساؤلات كبيرة من نوع: هل الهدف الصيني هو تقويض الهيمنة والسيطرة الغربية على الاقتصاد والسياسة الدوليين؟! أم استهداف صيني للسيطرة والهيمنة على الاقتصاد الدولي؟ أم هدف وسط يجمع بين الافتراضين؟