“مسيرات العودة”: مكاسب إعلامية وسياسية، ولكن؟!
من ضمن ما ساهمت به “مسيرات العودة” الفلسطينية أنها أعادت الأمور إلى نصابها، والصراع المرتبط بحق العودة، وكذلك الحصار الجائر على قطاع غزة، إلى الأجندة المحلية والعربية والدولية. وكل هذا، يصب في مواجهة المخططات الأمريكية الصهيونية وعلى رأسها “صفقة/ صفعة/ لعنة/ القرن”، سمها كما شئت. فقد أرسلت هذه المسيرات رسائل قوية للعالم بأن الشعب الفلسطيني لن يتخلى عن حق العودة إلى أراضيه التي هجر وطرد منها عام 1948 ولن يقبل بديمومة الحصار على القطاع مع تحريك الجهود الرامية لإلغاء الإجراءات العقابية ضده، وبالذات بعدما دعمت الولايات المتحدة جزء كبيرا من رواية حكومة (بنيامين نتنياهو) في هذا الصدد!! وحقا، ربح الفلسطينيون كثيرا عندما خرجت المسيرات، بدء من إحياء ذكرى “يوم الأرض” حتى ذكرى النكبة 1948، خارج حدود قطاع غزة، فوصلت إلى العالم، مما كفل عودة الاهتمام الإعلامي العربي والدولي بالقضية. كما نجحت المسيرات في إقناع أوساط هامة في إسرائيل والعالم الغربي، أن انفجار غزة حين يقع، سيكون باتجاه دولة الاحتلال إذا ما استمر الحصار وازدادت الأوضاع المعيشية سوءا. كذلك، أثبتت المسيرات أن الشعب الفلسطيني لن يقف مكتوف الأيدي أمام القرارات الأمريكية أو مشاريع التصفية التي تستهدف القضية الفلسطينية.
لقد واجهت الدولة الصهيونية وبقلق واضح “مسيرات العودة” فأحدثت فيما أحدثت ارباكا للقيادات السياسية والعسكرية على حد سواء، ووضعتهم أمام حيرة في كيفية التعامل مع الفلسطينيين، وكيفية مواجهة هذه التحركات الشعبية الفلسطينية. فجيش الاحتلال تحرجه حرب يخوضها تجاه المدنيين العزل، لكنه بالمقابل لم يعتد الصمت على أي نشاط أو تحرك فلسطيني يذكر العالم بقضيته، الأمر الذي جعله “يفرط” في استخدام القوة وأعمال القتل والجرح والإعاقة ضد الجماهير الفلسطينية، جاعلا العالم “يكتشف” مرة أخرى حقيقة الأسلوب الوحشي الذي تستخدمه إسرائيل بحق الفلسطينيين. وعلاوة على “الانتفاضة الإعلامية” العالمية، وبخاصة في دول الغرب، ضد المقارفات الإسرائيلية، ظهر التناقض جليا وواضحاً بين مواقف الكتاب والصحافيين والمفكرين والأكاديميين الإسرائيليين في التعامل مع المسيرات. فعلى سبيل المثال، قال الصحافي في إذاعة جيش الاحتلال (كوبي ميدان): “اليوم أنا أشعر بالخجل من أن أكون إسرائيليا”. أما البروفيسور الإسرائيلي (شاؤول مشعالي) فقد كتب: “إن حماس تهتم بالرأي العام (المحلي والعالمي) وظهر ذلك في مسيرة العودة”، فيما قالت زعيمة حزب “ميرتس” (تمار زاندبرج): “من حق الفلسطينيين التظاهر وأدعو الجيش إلى التوقف عن إيذاء الأبرياء”. أما الكاتب في صحيفة “يديعوت أحرنوت” (ناحوم برنياع) فقد كتب يقول: “ليس لنا أن نلومهم على كراهيتهم الشديدة لنا، فهم يسكنون في مخيمات اللاجئين في غزة ونحن وأمام ناظريهم نسكن ونعمر مزارعهم وبيوتهم وبيوت آبائهم التي أخرجناهم منها بالقوة”. وغير ذلك كثير من أقوال وكتابات واعترافات إسرائيلية.
عالميا، خلقت المسيرات حالة من التناقض خاصة في مجلس الأمن الذي فشل في إصدار بيان يدين العنف الصهيوني، في حين تمت إثارة الرأي القانوني سواء من قبل أفراد أو مؤسسات المجتمع المدني العالمي التي دانت استخدام قوات الاحتلال للعنف الفاجر ضد متظاهرين مدنيين مسالمين. وفي هذا السياق، جاء تسليم وزير الخارجية الفلسطيني، المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية (فاتو بنسودا) خلال اجتماع رسمي بينهما، الإحالة للحالة في فلسطين حول الجرائم المستمرة التي ترتكبها إسرائيل سواء تلك التي وقعت في الماضي أو الحاضر أو أية جرائم تقع في المستقبل.
وفلسطينيا، يركز الكثيرون على أن النضال السلمي الفلسطيني ربما يكون عنوان المرحلة القادمة بعد فشل المفاوضات الفلسطينية وتجميد الكفاح المسلح. والنضال السلمي هذا يرهق إسرائيل ويستنزفها لأنها ستدان أمام العالم لاستخدامها القوة المفرطة أمام المدنيين العُزل. فـ”مسيرات العودة” رسمت مشهدا اشتاق له الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج والشتات والمهجر، مشهدا طبيعيا حين التف الجميع حول القضايا الوطنية المصيرية، وعلى رأسها قضية الأرض التي تشكل جزء من العقيدة، بل إنها جمعت الفلسطينيين في القطاع والضفة وأراضي 48 أخيرا تحت راية موحدة، بعد انقسام فتحاوي/ حمساوي مرير ما زال قائما منذ أكثر من 11 عاما. واليوم، أصبح “سؤال المليون”: كيف سيستثمر السياسي الفلسطيني مسيرات العودة في صالح القضية الفلسطينية؟ فالفلسطيني المدني الأعزل صمد في وجه الدبابة الإسرائيلية وقدم خدمة عظيمة للسياسي الفلسطيني جعلته قادرا على تحقيق نتائج ترضي الشعب الفلسطيني رغم الخسائر البشرية باهظة الثمن والتي لا يمكن تجاهلها. بل إن عدم استثمار تلك الخسائر الغالية وطنيا سيجعل من الثمن الباهظ المدفوع بالأحمر القاني ثمنا عبثيا!! وهنا، نحن لا نملك إلا أن نحذر من نتائج حرب 2014 على قطاع غزة، حين صمد المقاتل الفلسطيني في أزقة ومخيمات وأحياء قطاع غزة، فيما فشل السياسي الفلسطيني في تحقيق نتائج سياسية ملموسة نحو حلول واضحة للقطاع بل إن الحصار إزداد عليه.
بمنتهى الشجاعة والعطاء، واجه أهل قطاع غزة الموت بتفاصيله اليومية الممتدة على مدى أعوام مضت. وعليه، فإن الحراك السياسي العربي والدولي الذي خلقته “مسيرات العودة” اتجاه قطاع غزة وما يعانيه من حصار، وتنديدها بجرائم الحرب الإسرائيلية تجاه المتظاهرين العزل السلميين، يعتبر خطوة إيجابية أولى على طريق تحقيق أهداف أكبر، وفي طليعتها ضرورة إفشال “صفقة القرن” وضمان رفع الحصار والعقوبات عن القطاع”.