فلسطينيا: هل من “طريق ثالث” للخلاص؟
في كثير من الأحيان، توفر تعقيدات الظروف الدولية فرصا تاريخية تحتم على حركة أو أو فصيل أو حزب ما مراجعة تجربته السياسية من أجل المصلحة العامة، خاصة إن كان أيا منها غارقا في أزمات تنظيمية وفكرية وسياسية وبنيوية. فلسطينيا، ومع مرور سبع سنوات عجاف بالتمام والكمال على الانقسام الفلسطيني/ الفلسطيني، يقتضي اعتبار المصلحة العامة، عدم القبول بما يحدث وكأنه من المسلمات. وعند عدد متزايد من المراقبين وقطاعات من الشعب، تجاوزت الحالة الإنقسامية الراهنة “أيديولوجية الإقصاء” لتدخل في صلب مفهوم “التخلص من الآخر” الفلسطيني. وهؤلاء، جميعا يعبرون – عن خطأ أو عن صواب – بأن “فتح” و”حماس” سقطتا في الامتحان بتفوق على اعتبار أنهما غلبتا مصالحهما الفصائلية والشخصية على مصالح القضية والشعب الفلسطيني، متجاهلتين الحقائق، وأنهما قد تحولتا إلى سلطتين سياسيتين متصارعتين وجودهما مرتبط بصلابة الكرسي، ففقدتا القدرة على امتلاك أدوات التغيير.
في مقال بعنوان “الطريق الثالث في المشروع الوطني الفلسطيني”، يطرح الصديق الدكتور شفيق الغبرا الحل المأمول بنظره بالقول: “فلسطين ستنتج طريقاً ثالثاً، والطريق الثالث سيكون طريقاً شعبياً، يأتي من الحالة الشعبية الخائفة من المستقبل والتي تحمل المشروع الوطني في روحها وتجربتها. هذا يعني جمع لكل الظواهر المقاومة في الشارع الفلسطيني في ظاهرة أكبر وضمن رؤية أوضح”. نعم، فما يحدث في الساحة الفلسطينية ليس فقط خلافات واشكالات بين سلطتين! إنها أزمة صعبة ومعقدة، أوصلت القضية الفلسطينية في الشارعين الفلسطيني والعربي الى حالة غير مسبوقة من العزلة، والى وضع يهدد كامل شبكة العلاقات الإقليمية والقومية والدولية التي بنيت حول حقوق الشعب الفلسطيني على مدى عقود من النضال كشبكة أمان وحاضنة حيوية لهذه الحقوق. ولذلك، آن أوان الطريق الثالث. وفي السياق، يتساءل كثيرون، أليس نضال الحركة الأسيرة جزء من طريق ثالث؟
في ذات السياق، تأتي “الهبة الفلسطينية” التي انطلقت في تشرين أول/ أكتوبر 2015 ووصلت تضحياتها إلى (322) شهيد منهم (29) طفلا. هذه “الهبة” تواصل التأكيد، على أن الشباب الفلسطيني بات يتصور، في ظل التهميش والمشاكل المجتمعية وحركة التأرجح بين بندولي الأمل واليأس اللذين يعيشهما، أن القيادة الفلسطينية ليست مع اندلاع نار “انتفاضة جديدة” وأن معظم الفصائل لن يتعدى موقفها، وفق الشواهد، إصدار البيانات. ورغم ذلك، بات قطاع من الشباب الفلسطيني يتبنى المقاومة طالما بقي الاحتلال، وبالذات بعد أن ثبتت استحالة منع العمليات الفردية الناجمة عن طاقة يولدها مزيج من “ديناميت” اليأس والأمل الفلسطينيين. وها هي عملية القدس الأخيرة تسجل أهمية في “التنسيق الوطني المقاوم” بين الفصائل، ما يفتح الطريق للتأكيد على أن مواجهة الاحتلال تكتسب قوة وقيمة وأهمية عبر “تنسيق الفعل الوطني”، وتثبت أن هذا الشعب لن يعجز عن إختراع كل ما هو جديد بالفعل في سبيل حريته إزاء عبثية المفاوضات.
كذلك الحال مع حركة BDS (حركة “المقاطعة، وسحب الاستثمارات، وفرض العقوبات”) التي نجحت باستقطاب آلاف المؤيدين عربيا وعالميا، وأثارت قدرا لا بأس به من الغضب والقلق معا في إسرائيل عقب تسببها بخسائر سياسية وإعلامية ومعنوية واقتصادية مهمة للدولة الصهيونية.، ولقد باتت هذه الحركة، بكلمات الكاتب الإسرائيلي في صحيفة “هآرتس” (جدعون ليفي) “أداة عادلة ووسيلة شرعية ناجعة في الحرب ضد الاحتلال الإسرائيلي”. ورغم الغضب والقلق الإسرائيلي وتخفيض الميزانيات والأجهزة الجديدة المختصة، يدلل (ليفي) على رواج فكرة المقاطعة من قبل مختلف الأطراف: “إسرائيل تستخدم المقاطعة وتنصح الآخرين باستخدامها… كما أن المجتمع الدولي يستخدمها، حيث فرض عقوبات على روسيا بعد احتلالها القرم”.
طبعا، ليس مطلوبا نسف التاريخ النضالي الفلسطيني بأكمله أو العودة إلى نقطة الصفر! فالمطلوب هو: عمل جبهوي مؤسس على “تفاهم” النظام السياسي الذي تتقاسمه فتح وحماس (والفصائل الفلسطينية التي تتوفر فيها شعلة النضال) قادر على اتخاذ خطوات جادة لبلورة توجه مقاوم جديد يعكس وزنه في إطار فلسطيني عام، بعيدا عن النزاعات الفئوية الحالية، منحاز لقيم التحرر الوطني والديموقراطية السياسية والاجتماعية، ويستمد قوته من عمق الأزمة الاحتلالية التي يعيشها الشعب الفلسطيني اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، ويعيد التأكيد على ضرورة التمسك بنصوص “وثيقة الوفاق الوطني” التوفيقية التي قدمت صيغة مقبولة من الجميع لاحترام الشرعية وتأسيس طريق وطني يحمل عبء استمرار التمسك بثوابت “الحد الأدنى” الوطنية. وفي السياق، يقول (ريتشارد فولك) الخبير القانوني الدولي الشهير: “نصيحتي للفلسطينيين الاستمرار في دعم المقاومة السلمية الفاعلة التي أدت إلى نجاح الانتفاضة الفلسطينية الأولى وتزايد تعاطف الرأي العام العالمي مع القضية الفلسطينية. إن ما تم تحقيقه في جنوب إفريقيا خلال مقاومة النظام العنصري هناك في الإمكان تحقيقه في فلسطين إلى أن تتخلى الولايات المتحدة وإسرائيل عن الاعتقاد بأنهما ستتمكنان من تحقيق أهدافهما غير العادلة عبر الوسائل العسكرية”. لربما، فقط، عبر هذا “الطريق الثالث”، يخرج الفلسطينيون من كامل منظومة الأزمات الداخلية والخارجية، ويغذوا السير حثيثا – في إطار جبهة وطنية عريضة – لتحقيق بنود برنامج “الحد الأدنى” الوطني الفلسطيني.