انحرافات “الربيع” إذ تضرب العالم العربي والأمريكي والإسرائيلي

بمعنى محدد، تحول جانب أساسي من الظاهرة التي حملت اسم “الربيع العربي” ليصبح كارثة مدمرة خيبت آمال كثير من الذين كانوا يعتقدون بأن هذا الحراك (المفعم بالنوايا الحسنة لكن المسلوب الإرادة لأسباب عديدة) هو الطريق الذي يقود إلى تغيير حقيقي في العالم العربي. فكل من كانت حياته جحيم حارق أو فاشل في حياته، انضم أيضا إلى هذا الحراك الجماهيري الشعبي لكي يمحي من الوجود حكاما سرقوا مستقبله وآماله. ولكن الانتقام وحده لا يبني دولة مدنية عادلة. فالحكم الفاسد الدموي لا يمكن تغييره بمجرد الانتقام، والتاريخ حافل بأخبار “الثورات” التي أكلت، في آخر الأمر، أبناءها بدون رحمة ولا شفقة. والأنكى من ذلك كله كون الفكر التكفيري حاول خطف “الربيع العربي” تحت مظلة دينية لا علاقة لها بتاتاً بالدين الإسلامي الحنيف لكي يبني دولته الدينية التكفيرية المحرمة تحريماً مطلقاً في الدين الإسلامي سواء كانت في شكل جمهورية أو دولة أو خلافة، لا فرق بينها، لأنها كلها تؤدي إلى وضع السلطتين الدينية والسياسية في يد واحدة دكتاتورية تدعي لنفسها العصمة. ولقد حرّم الإسلام دولة الكهنوت بتحريمه الكهنوت بشكل مطلق لكي يمنع إنشاء دولة دينية باسم الإسلام ظلماً وجوراً.

من المعروف أن القوى الغربية الكبرى أنبتت الفيروس التكفيري، المؤسس على قواعد عنصرية، الذي تبنته “القاعدة” لمحاربة “امبراطورية الشيطان السوفياتية” وأطلقت جحافل “القاعدة” في أفغانستان مما أدى – ضمن عوامل أخرى – إلى خروج القوات السوفياتية من أفغانستان. وفي وقت لاحق، أصبح الوحش الذي خلقه الغرب لمحاربة السوفيات يمثل خطراً مصيرياً على الغرب نفسه ويدب الذعر في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية. هذا الخوف الذي تابعت بثه “داعش” (بعد “القاعدة”) في حياة الغربيين دفع الخائفين إلى الشعور بكره شديد تجاه المسلمين وتجاه الإسلام مما أشعل لهيب نوع خاص من “الربيع الأمريكي” الشاذ – إن شئت – الذي قد يغير الخريطة السياسية في الولايات المتحدة.

يزداد وعي قطاعات من الناخب الأمريكي بحقيقة أن الحزبين السياسيين الرئيسين قد تم شراؤهما بدرجة أو بأخرى من قبل أصحاب النفوذ الذين نظموا صفوفهم في مراكز اللوبي في “واشنطن العاصمة” ما أدى إلى سلب سلطة الشعب من مجلسي الشيوخ والنواب في الولايات المتحدة. ومعروف أن أخطر لوبي في واشنطن هو اللوبي الصهيوني الذي يسيطر عليه حزب الليكود سيطرة كاملة. وفي السياق، اختارت قطاعات واسعة من المنتخبين الجمهوريين الشخصية الضحلة الغوغائية (دونالد ترامب) ليكون أداة لتجاوز القيادة السياسية “التقليدية” السائدة في الحزب الجمهوري. ومن الملاحظ أن “الربيع الأمريكي” الذي أشعله الناخب الجمهوري الغاضب الخائف قد أثر أيضاً تأثيراً كبيراً على الناخب في الحزب الديمقراطي وبخاصة ذاك الذي أيد (بيرني ساندرز) العضو في مجلس الشيوخ الأمريكي، واليهودي الأول في تاريخ أمريكا الذي يترشح في أية انتخابات رئاسية. غير أن (ساندرز) أخذ الطريق الاشتراكي آملا إنهاء سيطرة الرأسمالية الجشعة المتمثلة في (مجمع البنوك والمال في نيويورك). ومع ذلك، يكمن الخوف القائم الآن في احتمال انضمام “وول ستريت” مع نسبة من جماعة (ساندرز) الغاضبين على الحزب الديموقراطي ومرشحته (هيلاري كلينتون) إلى حملة (ترامب).

ذات الفيروس التكفيري ذي الأسس العنصرية (الذي يفتك بالنفوس في العالمين العربي والإسلامي ويفتك أيضا بالربيع الأمريكي) هو فعّال أيضاً في إسرائيل حيث شملت عدواه كلا من المتدينين اليهود المتعصبين والقوميين الاستعماريين المتطرفين من الصهاينة. والدلائل البارزة على ذلك كثيرة. بل إن هذه العقلية الداعشية السائدة الآن في إسرائيل تحاول الاتحاد مع “الربيع الأمريكي” الشاذ المناهض للإسلام والمسلمين وهو الأمر الذي دفع نائب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي اللواء (يائير جولان) ليبدي رأيه الصريح خوفاً على إسرائيل. وكان (جولان) قد أثار زوبعة سياسية كبرى حين أعلن بصراحة مفعمة بجرأة لا سابق لها، في خطاب له أمام العديد من السياسيين الإسرائيليين أثناء تكريم من قضوا في المحرقة النازية إذ أعلن قائلا: “الأعراض في إسرائيل اليوم هي شبيهة بالوباء في ألمانيا النازية، وإسرائيل تسير على ذات الخطا”. وتؤكد المصادر الإسرائيلية الموثوقة أن أوساطا واسعة في قيادة مؤسسة الجيش والأمن تحذر من مثل هذه العقلية. وعندما أيد وزير “الدفاع” (موشيه يعلون) حق الجيش بتحذير الطبقة السياسية الحاكمة إلى العودة إلى وعيها، دخل – عمليا – في صراع مع (بنيامين نتنياهو) رئيس وزراء إسرائيل الذي اقترح بديلاً عنه (أفيجدور ليبرمان) رئيس حزب “إسرائيل بيتنا” والذي هو أسوأ بكثير من (ترامب). ولهذا التطور في داخل إسرائيل ما بعده من ناحية تنامي سعار التيار الصهيوني الاحتلالي/ العنصري/ التكفيري الذي يحكم إسرائيل راهنا. وإنها لأيام عصيبة قادمة.