“مرض” تسييس الدين/ تديين السياسة و”العلاج”

ما من ضمانة مسبقة لصلاحية أي فكر سياسي كوصفة نموذجية لكل البشر وفي كل الأوقات وبخاصة عندما يؤدلج وفق دين ما. عندها، سيقيس هذا الفكر الصواب والخطأ في ضوء أفكار عقائدية مسبقة. بالمقابل، كل قيادة سياسية تعتمد منظومة عقائدية لابد أن تحدث هوة بينها وبين فئات من الشعب مقرونة بخلل في علاقاتها الخارجية. أما ارتهان أنظمة “ليبرالية”/ “تقدمية” لكن قمعية لإرادات دول خارجية أسهم في تأجيج نزاعات داخلية نتج عنها فشل تشكل هوية قومية مشتركة بين فئات المجتمع، فكانت المحصلة نمو الأصولية الدينية، حيث امتزج هذا “النمو” على نحو سرطاني، في ظل فهم خاطئ للدين، وتفسيرات غريبة للنص الديني، ومؤسسات دينية مرتهنة، بشكل أو بآخر، للمؤسسة السياسية الحاكمة، فاختلط الحابل بالنابل بين “تديين السياسة” أو “تسييس الدين”، فتكونت، جراء الفكر المتخلف والمشوه للمفهوم الصحيح للدين، جماعات شاذة نجحت باستقطاب حشود من الأتباع المهمشين/ “البروليتاريا الرثة”/ وربما الرعاع، “فأبدعت” بتشويه تعاليم وروح الإسلام الحنيف، ومارست التطرف الموغل في البدائية والوحشية.

وبسبب الإرتكاز إلى معتقد “ديني إلهي”، كان أكثر من مارس عملية “رفض” الرأي الآخر هي الحركات الإسلاموية (ولا نقول: الإسلامية) عبر إعطاء “صكوك” التبريرات الشرعية والأخلاقية والسياسية لترسيخ قوتها كمعارض/ بديل أوحد للأنظمة مستندة إلى ما هو “حقيقة مطلقة”. بل إن “ثقافة” رفض الآخر داخل هذه الحركات وصلت إلى وقوع “الرفض” بين التيارات الإسلامية نفسها وصولا إلى “التخوين” أو “التكفير” تمهيدا للإقصاء والإصرار على الاستئثار/ احتكار “الحق” والحقيقة. وقد أمعنت هذه الحركات في عملية احتكار تفسير الدين، ما ساعد على فشل هذه الجماعات في بناء إجماع وطني رغم اختيار الشعوب هذه الجماعات الدينية السياسية – في انتخابات جرت هنا وهناك في العالم العربي – بحثا عن حلول لمشاكل رسختها أنظمة عربية أمنية شمولية مستبدة وفاسدة مع مطلع عهد الاستقلال عن الاستعمار الغربي، وبعد فشل الحركات الليبرالية/ التقدمية/ العلمانية/ المدنية في تجربة الحكم “بفصل” برامجها المغرقة في الطموح العاطفي الوطني/ القومي والأممي، والغارقة في بحار من الفشل المتعدد الأبعاد.

لقد سعت الجماعات الدينية، في العالمين العربي والإسلامي، خلال السنوات الأخيرة، لتوظيف الدين خدمة لأهدافها وطموحاتها السياسية والشخصية، فعمقت الصلة بين الديني والدنيوي على قاعدة “ما هو ديني في الإسلام هو سياسي بشكل واضح، وما هو سياسي هو ديني بشكل عميق”، في محاولة لاستنساخ تجربة الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة، بعيدا عن الاجتهاد والتجديد، مع الإيمان في مرحلة لاحقة بأن العنف هو أفضل طريقة لإحلال شرع الله في الأرض، وأنه لا ضير إذا قتل في الصراع جموع من المسلمين. كما فشلت الجماعات الدينية السياسية في طرح أجوبة على أبسط الأسئلة المتعلقة بالحكم، لأنها لم تفصل في أنشطتها بين الجانبين الدعوي/ الاجتماعي، والسياسي، ثم اتسم خطابها السياسي – وبخاصة امتداداتها/ انشقاقاتها المتطرفة -، بفرض وصايته “الدينية” على المجتمع، بحيث “احتكرت” هذه الجماعات الحديث باسم الدين، ساعية لفرض رؤيتها تارة بالترغيب وأخرى بالترهيب، رافضة غالبا رأيا دينيا أو علمانيا مخالفا لها. وفي ظل إصرار معظم الجماعات الدينية السياسية على مزج فهمها للدين الاسلامي بالسياسة لتحقيق مصالحها الحزبية وحتى الشخصية أحيانا، انتشرت “ثقافة التطرف”، وامتلأ العالمان العربي والإسلامي بحالات تطرف لا تحصى، بل إنه كلما ضعفت حالة قامت أخرى أشد فتكا وظلما.

وفي سياق تساؤل كثيرين عن “المخرج” من هذا المستنقع، يطرح مفكرون فكرة “العلمانية الإيجابية” (والبعض يقول المتدينة) بمفهومها الصحيح أي فصل الدين عن الدولة (وليس – كما يروج الضالون والمضللون – إلغاء الدين أو الالحاد) على قاعدة الإيمان بالدين لكن مع فصله عن السياسة (الدين لله… والوطن للجميع). فما دام المواطنون في الدولة الواحدة لا ينتمون في الغالب إلى دين واحد أو إثنية واحدة، بل تتقاسمهم أديان متعددة، فإن التزام الدولة بدين واحد أو بإثنية واحدة فيه افتئات على المكونات الأخرى. هكذا، تأخذنا “العلمانية الإيجابية” بعيدا عن المرض المزدوج: “تديين السياسة” أو “تسييس الدين”. عندئذ، يمكن لقاء الجميع على أرضية الاجتماع على ثوابت محبة الوطن وقوة الانتماء إليه، والإقرار بحق وجود “الآخر” وبحقه في دوره كشريك طبيعي في المجتمع وفي المواطنة، وبضمان صيانة حقوقه الكاملة كمواطن متساو مع المواطن الآخر في كل الحقوق والواجبات (“وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ” (هود، الآية 118))؛ وكما ورد في السنة النبوية “لا فرق بين عربي ولا أعجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى”، فهل نعي ونتعظ ونقيم الدولة المدنية – دولة المواطنة المتساوية؟