الأسرى الفلسطينيون: لماذا ظاهرة استثنائية؟

يصر الأسرى الفلسطينيون في معتقلات وسجون الاحتلال، أصحاب معركة “الأمعاء الخاوية”، على استمرار إضرابهم حتى تحقيق مطالبهم المشروعة، وعلى رأسها وقف مقارفات “الاعتقال الإداري”، وسياسة العزل الانفرادي، وممارسة العقوبات الجماعية بمنع زيارات الأسرى وفرض الغرامات عليهم، ورفض تحسين الوضع الصحي للمئات من المرضى والمصابين، فيما هم يواجهون إنتهاكا فاضحا لأبسط حقوقهم الإنسانية، كما يواجهون إرهابا منظما. وهؤلاء الأسرى لا يقتصرون على شريحة معينة من الشعب الفلسطيني، فالكل مستهدف، والكل متهم، والأحكام والذرائع جاهزة وبغض النظر عن الجنس (أنثى أم ذكرا) والسن (أطفال أم كهول، صبايا أم شباب، أمهات أم آباء..الخ).

والحال كذلك، باتت قضية الأسرى واحدة من القضايا الجوهرية التي لا تحتمل التأجيل  أو الإرجاء، مما فرض على كل مسؤول فلسطيني أو مفاوض أن يقدم قضيتهم بشكل منفصل وإضافي على قضايا تقرير المصير. في المقابل، تواصل إدارة السجون الإسرائيلية تعنتها ورفضها لمطالبهم، وتتفنن في التمييز بين “جرائم”(!!!) الأسرى وطرق معاملتهم وهم الذين فاضت السجون ومراكز الاعتقال والتوقيف بهم. وبحسب إحصائيات “مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان”، فقد بلغ عدد الأسرى القابعون في سجون ومعتقلات الاحتلال الإسرائيلي في نهاية نيسان/ إبريل الماضي، 5265 أسيراً، من ضمنهم 186 معتقلا اداريا، و20 أسيرة، و202 طفلا. وهؤلاء، خاضوا أشرس وأشرف معارك الوطن قبل السجن، ويخوضون الآن أنبل معارك الكرامة داخل السجن، وهم من أصدق من يعبر عن جراحات الوطن وهموم الشعب، والأقدر على انتاج مواقف وطنية تقدم مصلحة الوطن على الحزب، ففيهم النخب السياسية والاجتماعية كرجال السياسة والناشطين السياسيين، المثقفين والأكاديميين، رؤساء وأعضاء في المجلس التشريعي والمجالس البلدية. وبحديث الأرقام وليس العواطف، ما من عائلة فلسطينية لم يخض أفراد منها تجربة الاعتقال على مدى السنين.

الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال هم ظاهرة استثنائية. ومؤخرا، صعدت المخابرات الإسرائيلية بشكل خطير بحق الأسرى المضربين الذين وقفوا بصلابة وشموخ أمام إجراءات إدارة السجون ومحاولاتها إذلالهم والنيل منهم، خاصة مع إعلان الأسرى الإداريين “إنهم قرروا وبشكل رسمي خوض (معركة الأمعاء الخاوية)، لكسر سياسة الاعتقال الإداري تحت عنوان (الأسرى الإداريون .. ثورة حرية وإرادة حياة)”. هم ظاهرة استثنائية بحق، فهؤلاء يتميزون بكونهم أصبحوا أسرى لأنهم مشاركون فاعلون في كافة أشكال النضال التي يعتمدها الشعب الفلسطيني كلما اقتضى الأمر، بل لا يمكننا إلا أن نعظم جانبا مهما في نضالهم ذلك أن منهم من قضى أكثر من ثلث قرن في سجون الاحتلال ولم ييأس بل استمر يناضل من أجل حريته، حتى بات أحدهم وهو سامر طارق العيساوي صاحب أطول إضراب عن الطعام في التاريخ، بدأه في الأول من آب/ أغسطس 2012، تبعه إضرابه عن الماء في 12 آذار/ مارس 2013، حتى وافقت النيابة العسكرية الإسرائيلية على صيغة اتفاق عرض من قبل سامر نفسه يقضي بالإفراج عنه بعد 8 أشهر، مقابل وقف إضرابه عن الطعام، وكان ذلك في 23 نيسان/ إبريل 2013، مع العلم أن قرار خوض الإضراب المفتوح عن الطعام يعتبر من أكثر القرارات صعوبة وقسوة ويحتاج إلى تفكير جاد وعميق، ويتطلب وجود قضايا تستدعي استخدام هذا الخيار.

ما يميز الأسرى كذلك، أنهم باتوا يشكلون نوعا من “الحزب المعنوي” في المجتمع الفلسطيني، رغم تأثيرات حالة الانقسام السياسي على واقع الحركة الأسيرة التي كانت وما زالت حادة، وكأني بالسجون تضطلع بدور محوري داعم وضاغط من أجل المصالحة الفلسطينية الفلسطينية، وفي هذا الإطار كلنا يذكر وثيقة الوفاق الوطني التي توصل إليها قادة الأسرى الفلسطينيين في معتقلات الاحتلال في أيار/ مايو 2006، والتي صادق عليها المجلس التشريعي بالإجماع ونالت ثقة الشارع الفلسطيني، والتي لم ينجح – للأسف – قادة الخارج في ترجمتها على الأرض، فاستمر الانقسام. وهي الوثيقة التي تضمنت خطوات عملية للحل، وقدمت نظرة شمولية ليس لتنفيذ المصالحة فقط، بل لتحقيق النهوض الوطني أيضاً، بعيدا عن المصالح وعن النظرة الحزبية الضيقة للأمور. فما أوسع عقولهم وصدورهم.

لقد بات “حزب” الأسرى “حزب الضمير” الوطني الذي يقدم له الشعب الفلسطيني أقصى ما يستطيع من دعم، وهو دعم يتصاعد ارتباطاً بتحرك الأسرى النضالي داخل السجون والمعتقلات. بل ربما لا يخلو الأمر من تفاعل بين أسرى وقوى سياسية وشخصيات ومؤسسات لبناء إستراتيجية عمل وطني. وفي هذا الإطار، تظهر قدرة ودور النخبة/ الصفوة داخل سجون ومعتقلات الاحتلال، فالحركة الأسيرة باتت تؤثر على أحزابها وعلى الشارع الفلسطيني رغم الإذلال والتعذيب ومحاولات النيل من معنوياتهم وتحطيم إرادتهم وتعطيل حركتهم السياسية والاجتماعية. ومما يؤكد ما سبق، أن الأسرى يصرون على رفض الإفراج عنهم مقابل أي تنازل عن الحقوق الوطنية، وهم الذين استطاعوا الدفاع عن الثقافة والوعي والشخصية والهوية الوطنية بشكل جماعي، فهم يدركون أن على رأس الاستهدافات المتعددة التي يسعى الاحتلال الإسرائيلي إلى تحقيقها هي عزل الأسير وتقييد مشاركته وفعله ونشاطه في الجانب النضالي المقاوم، والعمل على انتهاج سياسات تهدف إلى إعادة صهر وعيه وتشكيله على نحو لا يرتضيه أي أسير.

الاستخفاف والاستهتار الإسرائيلي بوضع الأسرى والمعتقلين وتعاطيه معهم كمجرمين وإرهابيين أو مجرد أرقام ورهائن، هو دافع أساس لضرورة وأهمية تدويل القضية وفتح معركة قانونية مع المحتل الإسرائيلي لضمان حقوق الأسرى ومركزهم الشرعي القانوني والإنساني بصفتهم أسرى حركة تحرر وطني قاوموا المحتل لممارسة كافة بنود حق تقرير المصير. وعلينا اليوم جميعا أن ننصر الأسرى في إضرابهم الجديد، بالمسيرات والفعاليات التضامنية، بل لا ضير من مشاركتنا معهم في رحلة “الأمعاء الخاوية” حتى يصل صوتنا إليهم “بأننا معكم”، بعد أن كانوا وما زالوا معنا، فنرفع معنوياتهم في معركة الارادة ضد السجان، فيعلو صوت الأسرى ومعاناتهم وعدالة قضيتهم على امتداد العالم. كما لا بد من التركيز على ضرورة تفعيل قضية الأسرى إعلامياً، وحشد الزخم الإعلامي المناسب لإيصال هذه القضية إلى المحافل الدولية، وتجريم دولة الاحتلال الإسرائيلي التي تمارس بحق الأسرى أشكال وألوان التعذيب النفسي والجسدي، دون أن ننسى أن القاعدة المركزية في عملية التدويل أن تكون الرسالة بين المستويين الرسمي الفلسطيني والشعبي الفلسطيني إلى العالم متجانسة، لضمان تأييد مؤسسات المجتمع المدني وحركات التضامن.