التحذيرات الأمريكية لإسرائيل.. ماذا بعد؟!

د. أسعد عبد الرحمن

في ظل الشروط والمقارفات الإسرائيلية الحالية، تبقى الجهود المبذولة أمريكيا بدون كبير جدوى. فالمفاوضات تعاني من ضربات إسرائيلية متتالية، بدأتها مؤخرا حكومة رئيس الوزراء اليميني (بنيامين نتنياهو) عندما رفضت إطلاق الدفعة الأخيرة المتفق عليها من الأسرى الفلسطينيين مشترطة موافقة منظمة التحرير على تمديد المفاوضات حتى نهاية العام الجاري. ثم تلى ذلك إعلان إسرائيل أنها ستقوم بتجميد عائدات الضرائب التي تجمعها نيابة عن الفلسطينيين، ووضع قيود على الودائع الفلسطينية في بنوكها (وغير ذلك من “عقوبات”) ردا على الإجراءات الدبلوماسية التي قام بها الفلسطينيون في الأمم المتحدة.

ومع تبادل الفلسطينيين والاسرائيليين الاتهامات بالمسؤولية عن انهيار المفاوضات والجهود التي يبذلها وزير الخارجية الاميركي (جون كيري)، تظهر الخلافات الكبيرة بين واشنطن وتل أبيب. فالمسؤولون الأمريكيون دأبوا منذ أشهر على تحذير إسرائيل علنا، بعيدا عن الغرف المغلقة كما كان الأمر سابقا، من أن الولايات المتحدة لن تستطيع حماية إسرائيل من تبعات مواقفها التعجيزية. ولقد اتضح أن الراعي الأمريكي لا يملك دورا في التوصل الى “سلام” إذا لم يكن مستعدا لاستخدام النفوذ الكبير الذي يحظى به لإجبار الإسرائيليين على الالتزام بالاتفاقات السابقة والامتثال للقانون الدولي. وفي العودة إلى المواقف الأمريكية، نذكر أن الرئيس (باراك أوباما) نفسه، وفي خطابه إلى العالم الإسلامي من العاصمة المصرية القاهرة في العام 2009، أكد أن على إسرائيل أن تعترف بحق الفلسطينيين في الوجود وأن “أمريكا لا تقبل استمرار الاستيطان الإسرائيلي لأن بناء هذه المستوطنات يعتبر انتهاكا للاتفاقيات السابقة وحان الوقت لوقف هذه الأمور، وعلى إسرائيل أن ترقى إلى مستوى مسؤوليتها وتدرك أن الفلسطينيين من حقهم أن يعيشوا في سلام، ولابد أن تتحرك إسرائيل باتجاه تحقيق ذلك”. تلى ذلك، الخلاف المستمر بين (أوباما) و(نتنياهو) حيث لا يثق أحدهما بالآخر ويحمل الأول الثاني مسؤولية أساسية عن إحباط المحاولات الأمريكية، (فأوباما) يؤيد “حل الدولتين”، وهو مع وقف “الاستيطان” وإخلاء بعض “المستوطنات” ومنح تسهيلات للفلسطينيين، فيما (نتنياهو) قومي يميني مناصر للبناء الاستعماري والتهويد أي “للاستيطان” و”الترانسفير”، رافض للحقوق الوطنية الفلسطينية، متشبث للغاية بإضافة “حقائق جديدة على الأرض” وعلى الوضع الراهن، يسرع البناء في المستعمرات/ “المستوطنات” في الضفة الغربية وتهويد القدس.

بالمقابل، يتصرف (كيري) كما لم يتصرف وزير خارجية أمريكي، ربما أقل بقليل (من حيث الضغط الواضح) من (جيمس بيكر) وزير الخارجية في عهد الرئيس (جورج بوش) الأب خلال مؤتمر مدريد للسلام. وقد حظيت تصريحات (كيري) في مؤتمر الأمن بمدينة ميونيخ الألمانية، الشهر الماضي، باهتمام واسع في إسرائيل التي اعتبرتها “رسالة تهديد لإسرائيل”، حين أعلن “المقاطعة الدولية لإسرائيل ستزداد حال فشل المفاوضات”. بل إن (كيري) حذر لاحقا من “أن الوقت المتوافر لدى واشنطن له حدوده، وأن الولايات المتحدة لن تشارك في عملية السلام إلى ما لا نهاية”. غير أنه قبل أيام، دعت صحيفة “نيويورك تايمز” في افتتاحيتها (وصحف رئيسية أخرى) الإدارة الأمريكية الى ترك جهود الوساطة بين الإسرائيليين والفلسطينيين والاهتمام بما أسمته الصحيفة “تحديات دولية رئيسية أخرى”.واقترحت الصحيفة على الإدارة في البيت الأبيض طرح مبادئها لاتفاق سلام دائم قابل للتنفيذ يرتكز على دولة فلسطينية داخل حدود 1967 مع تبادل أراض متفق عليه، واتفاق على أن تكون القدس عاصمة مشتركة للدولتين. وقالت الافتتاحية إن “على الإدارة الامريكية عند ذلك صرف النظر عن موضوع الشرق الأوسط وترك قادته لدراسة هذه المبادئ بعمق على ان تتفرغ واشنطن لبذل مزيد من الجهود في سياستها الخارجية إلى قضايا عالمية ملحة أخرى، مثل التوتر العسكري المتواصل بين روسيا وأوكرانيا وغيره من القضايا”.

ورغم أن هذه التحذيرات “الإيجابية” الصادرة عن الإدارات الأمريكية لا سابق حديث لها، إلا أن بعدا آخر للمسألة يطرحه الكاتب الأمريكي اليهودي والصهيوني (هنري سيغمان)، حيث كتب: “لم تعد الولايات المتحدة صانع السلام الأساسي فحسب بل باتت العقبة الأبرز التي تقف في وجه السلام لأنها تهدد باستمرار باستخدام حق النقض (الفيتو) ضد كل الجهود الهادفة إلى السماح لمجلس الأمن بمعالجة مسألة قيام دولة فلسطينية أو تبنّي إطار عمل لاتفاق حل الدولتين”. ويضيف: “كان يجدر بالولايات المتحدة إبلاغ إسرائيل أن حدودها تقع عند خط عام 1967 المحدد بوضوح في قراري مجلس الأمن رقم 242 و339 وبأن الولايات المتحدة والمجتمع الدولي لن يقبلا بالانحراف عن هذا المسار ولن يسمحا إلا بتبادل محدود للأراضي كما تم الاتفاق عليه سابقا”. ويختم (سيغمان): “لا يزال ممكناً التوصل إلى حل الدولتين في حال أخبرت واشنطن إسرائيل أنها ستضطر إلى معالجة تبعات الاحتلال وسياسات الاستيطان بمفردها. لكن، نظراً إلى إدمان سياسيينا على التملق وعلى الفوائد الأخرى التي تقدمها لجنة العلاقات العامة الأميركية-الإسرائيلية “آيباك” لدعم سياسات إسرائيل بشكل مطلق، بات الأمر شبيهاً بالمقولة القائلة إن الثلج سيتساقط في تموز”.

لا ننكر الجهود غير المسبوقة التي يبذلها وزير الخارجية الأمريكي الهادفة لإنهاء الصراع في منطقة الشرق الأوسط. ولا ننكر رغبتنا في نجاح عملية التسوية على أسس الشرعية الدولية. ورغم اقتناعنا بأن دورا يجب أن يناط لروسيا والاتحاد الأوروبي واللجنة الرباعية في المفاوضات، إلا أنه ما من بلد آخر غير الولايات المتحدة قادر على التأثير على إسرائيل نتيجة السخاء (المالي والاقتصادي والتكنولوجي) الأميركي المستمر منذ عقود، فضلا عن أن واشنطن هي الحامي الأكبر لإسرائيل من محاولات المجتمع الدولي معاقبتها على خرقها المتكرر للقانون الدولي. والحال كذلك، فإن على الفلسطينيين المضي قدما في المواجهة لتحقيق أهدافهم رغم العقوبات الإسرائيلية، ويا حبذا، لو يكون عبر تبني السلطة الوطنية الفلسطينية سياسة شاملة ودائمة للتعامل مع الأمم المتحدة ومنظماتها وأجهزتها المختلفة حتى تعود القضية الفلسطينية إلى سابق عهدها كأهم قضية في أروقة الأمم المتحدة بعد أن جعلتها تبعات “الحراكات العربية” وعلى رأسها الأحداث في سوريا، والملف النووي الإيراني، تبدو “معركة جانبية” لا وقت لها الآن في مجلس الأمن الدولي. وإن أدت هذه السياسة الفلسطينية إلى مقارفات إسرائيلية جذرية، فإن ذلك سيعني تفكيك “السلطة” (وما ينجم عنه من تبعات تؤثر سلبا على إسرائيل) وهو أمر أفضل قطعا من استمرار الوضع الراهن.