مسيحيو الشرق في محنة.. ومسيحيو فلسطين في ثلاث

عيد “أحد الشعانين” هو الأحد السابع من الصوم الكبير والأخير قبل عيد الفصح (القيامة) والأسبوع الذي يبدأ به “أسبوع الآلام”، والذي يتوافق مع يوم ذكرى دخول الفدائي الفلسطيني الأول (السيد المسيح) إلى مدينة القدس. كما يسمى هذا اليوم بيوم “أحد الزعف أو الزيتونة” لأن أهالي القدس استقبلوا سيدنا عيسى بالزعف والزيتون المزين، رمز الصلاة والأدعية من أجل السلام واستتباب المحبة في النفوس والضمائر، الأمر الذي يفقده ويفتقده العالم العربي اليوم. ومن الثابت أن المسيحيين كانوا قبل الإسلام، واستمروا بالتوازي معه، جزءً أساسيا من نسيج المجتمعات العربية، لهم إسهامات مميزة أثرت الحضارة العربية الإسلامية. فما أن فتح الإسلام عينيه حتى وجد المسيحية العربية شريكة في الأرض والوطن والمصير.

العروبة وجود وكيان، والدين عقيدة وإيمان، وهذان أمران لا تناقض بينهما. غير أنه في الفترة الأخيرة، ومع نمو “الأصوليات” الإسلاموية (ولا نقول الاسلامية، بل التكفيرية) التي ترسخت في ظل السياسة الأميركية للمحافظين الجدد في المنطقة، بدا وكأن الإسلام كدين هو المستهدف، فأخذ بعض المسلمين ينظرون إلى دينهم على أنه هويتهم كبديل عن الهوية القومية العربية، فطرحوا إقامة دولة ومجتمعاً إسلاميين، ما أدى إلى التباعد بين بعض المسلمين والمسيحيين، وبدأ استهداف “الآخر” المسيحي أو المسلم المعتدل/ العادي، وصولاً إلى تخوين كل ما له علاقة بالغرب، ثقافة ودين، حتى المسلمين ممن يحملون معتقدات غير معتقداتهم. واليوم، لم يعد “الآخر” هو المسيحي فحسب، بل أصبح هناك “آخر” ضمن المسلمين، وخاصة بين السنة والشيعة في العراق والبحرين والسعودية ولبنان وسورية.

اليوم، أين نحن من كل هذا؟! فهل يعقل بعد 14 قرنا من التعايش تطرح “الأصوليات” الإسلاموية مسألة “مجتمع مسلم” أي بدون مسيحيين؟! هؤلاء، وبطرحهم تغييب المسيحيين، يفقد العالم العربي ميزته كأمة ذات طبيعة قومية. فالأمم الحديثة، حتى وإن كان الدين عنصرا حيويا في وجودها، فإنها إن قامت على أساس ديني تجد نفسها في حرب مع كل دين آخر. وهذا ليس من الاسلام (أو المسيحية) في شيء. فضلا عن ذلك، مثل هذه التوجهات تصب في فلسفة “دولة إسرائيل” القائمة على العنصرية البغيضة التي ترفض الآخر وتقصر الدولة على أبناء الدين الواحد “اليهودي” فقط. ولنعترف بحزن! هذه الأيام تزايد عدد المسيحيين الراغبين في الهجرة إلى الغرب مع ظهور ما بات يعرف “بالإرهاب الإسلامي” ضد المجتمعات الغربية، ما أدى في الغرب إلى الخلط بين الإسلام الحقيقي المعتدل والمتسامح وبين “الإسلام الإرهابي”، وبالتالي طرحت هناك مقولة عدم إمكان التعايش مع الإسلام الذي سبب فرار المسيحيين من البلدان ذات الأكثرية الإسلامية، فجرى استغلال هجرة المسيحيين إلى الغرب، مضافة إلى “الإرهاب الإسلامي”، لترويج الحقد على الإسلام والمسلمين وتحقيق أهداف سياسية واقتصادية.

إن مجرد فكرة شرق أوسط خال من المسيحيين فكرة مرفوضة في العقل وأعماق الوجدان. لكن، نعم، ثمة سبب جدي للخوف من إفراغ المنطقة من المسيحيين. وفي الاراضي المقدسة الواقع مؤلم والمخاوف كثيرة تجاه مستقبل المسيحيين. لكن من المؤكد أن المسيحيين عليهم أن يكونوا كما يقول بطريرك اللاتين في القدس وسائر الأراضي المقدسة (فؤاد طوّال): “نعيش في الأرض المقدّسة وضعًا صعبًا لا يبدو له حلٌّ في القريب العاجل، نلمسُ آثارُه على جميع سكّان الأرض المقدّسة، وعلى المسيحيّين مثل غيرهم. والحل ليسَ في الهجرة والرحيل ولا في القوقعةِ والانغلاق، الحلُّ هو أنْ نبقى هنا وأن نعيش هنا وأن نموتَ هنا”. بل إن قداسة بابا الفاتيكان جمع بطاركة الشرق وأطلق وإياهم نداء حارا مشوبا بالقلق، حيث قال: “لا يسعنا أن نفكر في شرق أوسط خال من المسيحيين الذين منذ نحو ألفي عام يبشرون باسم المسيح وهم مواطنون مندمجون في الحياة الاجتماعية والثقافية والدينية لأممهم”. وإن كان مسيحيو الشرق في محنة، فمسيحيو فلسطين في ثلاث. أولها محنة الاحتلال الإسرائيلي التي تصيبهم بقدر ما تصيب إخوانهم الفلسطينيين المسلمين، والمحنة الثانية محنة الإسلاموين التكفيريين التي باتت تضرب في كل بقعة عربية، فيما المحنة الثالثة هي محنة “الاحتلال اليوناني” المتمثل في بطريركية الروم الأرثوذكس المقدسية، التي اعتادت على بيع ممتلكات تعود للكنيسة بالقدس الشرقية لمستثمرين يهود استعماريين/ “استيطانيين”. ومعركة “رعايا” الكنيسة العرب مستمرة ضد ما أسماه عديدون (“الاستعمار الديني اليوناني”)، وهو واقع مرير مستمر منذ القرن السادس عشر،حيث يستمر استنزاف الرهبان اليونان لممتلكاتهم وأوقافهم ووجودهم في الأراضي المقدسة. ووفقا للسجلات الرسمية، تمتلك الكنيسة نحو 18% من مساحة القدس الغربية و17% من القدس الشرقية ونحو 3% من مساحة اللد والرملة ويافا وحيفا، وقوامها الأراضي والأديرة التي لم تمسها سلطات الاحتلال (بعد!!!) ومعظمها فارغة لكنها في مناطق حساسة ولذلك قيمتها المادية والإستراتيجية كبيرة. وفي هذا السياق، تستمر احتجاجات أبناء الطائفة الأرثوذكسية في الأردن وفلسطين تؤكد على الحقوق التاريخية لابناء الكنيسة الارثوذكسية المقدسية العربية الممتدة على اراضي الاردن وفلسطين، داعين الى ضرورة متابعة العمل وصولا الى النهضة الارثودكسية الشاملة ووقف التهميش وسياسة الإقصاء التي تعتمدها البطركية الأرثوذكسية في القدس بحق رهبانهم .وفي بيان صدر قبل أيام، أكدت “الجمعية الارثوذكسية” على “أن السكوت لم يعد مجديا على طريقة تعاطي البطريركيّة مع أبناء الكنيسة ومع الكهنة العرب، وتهميش دورهم وإقصائهم، وتهديد وتهجير أبناء الرعية ممن يسعون للرهبنة، والاستمرار في ذات المسار المهين المسيطر على مفاصل شؤون الكنيسة والتفرد المطلق في القرارات الإدارية”. وكان العرب المسيحيون يأملون باستعادة الأوقاف والأراضي التي فرطت بها البطريركية للاحتلال، إلا أن السياسة القائمة في البطريركية هي سياسة بعيدة كل البعد عن العلاقة الأبوية والرعائية.

رغم كل ما يحاك من مؤامرات، يبقى المسيحيون جزءً لا يتجزأ من الأمة العربية، مشاركون في الهموم، ومؤكدين صمودهم في الخندق نفسه مع المسلمين. ومن أراد شواهد على ذلك فإن أمامه مواقف ونضالات مسيحيي فلسطين (وغيرها) المقاومة لسياسات الاحتلال الإسرائيلي، وبخاصة تجاه ما يتعرض له القدس الشريف والمعالم الإسلامية التاريخية.