الكلام غير المباح فلسطينيا في التخلي الأمريكي عن الحلفاء
تخلي الولايات المتحدة الأمريكية عن حلفائها ليس أمرا جديدا والقائمة طويلة ومعروفة. فمن الماضي القريب وحتى اليوم نستذكر حالات واضحة من نوع ما جرى مع الجنرال التشيلي (أوغستو بينوشيه)، وشاه إيران (محمد رضا بهلوي)، والرئيس التونسي (زين العابدين بن علي)، والرئيس المصري الأسبق (حسني مبارك) ومن بعده (محمد مرسي) وغيرهم في كافة أصقاع الأرض. بل إن الأمر تعدى واقع التخلي عن رؤساء دول إلى عملية التخلي عن التزامات قائمة مع منظومة دول في مناطق حساسة ربما لن يكون آخرها، الموقف من الملف النووي الإيراني. فمن وجهة نظر دول الخليج، المخاوف من المشروع الإيراني مشروعة تماما بحيث بات الكل يتساءل عما إذا كانت الصفقة بين إيران والدول الست ليست مجرد إعادة رسم للاستراتيجية الأميركية في المنطقة في سياق ما بدا تخلي واشنطن عن حلفائها التقليديين لصالح التقارب مع إيران. وهذا التطور جعل ثقة دول الخليج تهتز بالولايات المتحدة، وتطرح من مصداقيتها، خاصة مع ضبابية بل ورخاوة الموقف الأمريكي من الأزمة في سوريا، كما تراه دول الخليج. وفي نظر مراقبين ومحللين إن إيران لربما أصبحت، في قادمات الأيام، مرشحة للعب دور فعال وربما متشارك مع الولايات المتحدة كما رسى عليه الحال في العراق. وفي هذا كله تخل معين عن سياق تعاون قديم وقوي أسماه البعض تحالفا مع المملكة العربية السعودية ومعظم دول الخليج.
بالمقابل، يرى البعض، أن الولايات المتحدة لا تتخلى عن حلفائها. إذ هم، بالأصل، ليسوا حلفاء وإنما هي تعمل على خلق ذلك الوهم، علما بأنهم – فيما ينظر إليهم في الأغلب الأعم – مجرد أدوات ما أن تؤدي أدوارها وتنتفي الحاجة لها حتى ينتهي أمرها ويشطب اسمها من على “قائمة الحلفاء”! وهذه النظرة الأمريكية وإن تكرست مع عديدين، فإنها لم تمر في حالة “مجلس التعاون الخليجي” بقيادة السعودية التي أوضحت للولايات المتحدة استياءها برفض المقعد الذي حازته في مجلس الأمن، مقرونا بقراءة خاصة لمصالحها ولخريطة علاقاتها غير التبعية مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة وبالذات منذ قطع النفط عن الغرب عشية حرب أكتوبر 1973.
اليوم، ومن واقع وجودي في أطر القيادة الفلسطينية، ثمة همس فلسطيني “غير مباح”، لا يعلن على الملأ رغم انتشاره الكثيف في “الأجواء الداخلية”، وبالذات عن مسألة الإمكانية المتزايدة لتخلي الولايات المتحدة عن القيادة الفلسطينية. ولربما تحول هذا الهاجس إلى خوف حقيقي لدى القيادة الفلسطينية التي حرصت أيما حرص على المراهنة على واشنطن. ومما يكثف هذه المخاوف ما يطرحه اللوبي الصهيوني على لسان بعض قادته الفكريين/ السياسيين. وفي هذا، السياق، كان معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، قد نظم بداية شباط، ندوة بعنوان “إسرائيل وأميركا وشرق أوسط يتلاطم بالأمواج”، تحدث فيها مدير المعهد (روبرت ساتلوف) قائلا: “وزير الخارجية الأميركي جون كيري اكتشف سر النجاح، واحتضن بيبي (رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو)، واحتضن الموقف الإسرائيلي وأعطى نتنياهو وجودا أمنياً في الأغوار، ولكن هذا غير كاف”. وأضاف (ساتلوف) الذي يعتبر من أشد المدافعين عن إسرائيل في واشنطن: “يتوجب على الولايات المتحدة التي تتحدث مع إسرائيل بصراحة عن التضحيات التي يجب أن تقدمها، أن تفعل الشيء ذاته مع الفلسطينيين، وتتحدث معهم بمنتهى الصراحة وتقول لهم: اما الدولة واما حق العودة، وأن تخبرهم كذلك بحقيقة أن عودة اللاجئين هي ضرب من الخيال، ولذلك فانكم إن أردتم الدولة الفلسطينية لا بد ان تتخلوا عن أوهام حق العودة، وتعترفوا بيهودية الدولة”. كما طالب (ساتلوف) الإدارة الأميركية لتقوم بدورها “في المطالبة بتعديل مبادرة السلام العربية ليكون التركيز فيها فقط على اتفاق للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، مقابل اعتراف العرب وتطبيع علاقاتهم مع إسرائيل، وان يتم تجاهل هضبة الجولان المحتلة لأنهم يعرفون أن وضع الجولان لن يبحث لسنوات طويلة قادمة”.
واشنطن – مثل الغالبية العظمى من العواصم – لا تغير طبيعتها، ولا تنحاز إلى جانب الشعوب وطموحاتها، بل هي تركض وراء مصالحها، وهذا أمر طبيعي. واليوم، بات جليا أن الإدارة الأمريكية قد تخلت عن الإلتزام الذي قطعته للقيادة الفلسطينية بالعمل من أجل التوصل إلى اتفاق “سلام” نهائي خلال مدة الـ 9 شهور المحددة للمفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية التي استؤنفت في تموز/ يوليو الماضي وبدأت تطرح التوصل إلى ما يسمى “اتفاق إطار” لا يعلم كنهه أحد حتى الآن، لكنه من الواضح أنه يستجيب للمطامع والمخططات الإسرائيلية ولا يقدم للفلسطينيين شيئا حقيقيا عدا عن أنه يمثل التفافا على الإتفاق النهائي المفترض التوصل إليه، الأمر الذي يكرس الإحتلال الإسرائيلي ويديم من عمره الملعون. والحال كذلك، تعاني القيادة الفلسطينية من شكوك حقيقية تجعلها تتخوف من تحميلها، أمريكيا، مسؤولية فشل المفاوضات. فرغم كل الكلام الناعم الصادر عن الإدارة الأمريكية للقيادة الفلسطينية، ورغم ما قدمته وما يمكن أن تقدمه القيادة الفلسطينية من تنازلات في المقابل، تتوارد على مخيلة القيادة الفلسطينية أشواك أفكار على رأسها انسحابات إسرائيلية جزئية أحادية الجانب و/ أو عقوبات متنوعة قد تفرضها إسرائيل، مقرونة بانسحاب أمريكي من ساحة العمل على إيجاد تسوية دون إدانة للطرف الإسرائيلي الذي ما فتئ يطرح مطالب تعجيزية، وذلك في نطاق تجنب أي “مواجهة” مع الحكومة الإسرائيلية، وطبعا دون أن تسمح الإدارة الأمريكية للأمم المتحدة أو “الرباعية الدولية” بتولي الأمور. وهذا الموقف إن تبلور حقا، فإنه سيقدم خدمة كبرى في نطاق شراء الوقت لإسرائيل كي تستكمل جهودها المحمومة لإنجاز شعارها القديم: الاستيلاء على أكبر قدر من الأرض الفلسطينية مع تقليص عدد الفلسطينيين (في أرضهم) إلى أقصى مدى!