تطورات وحقائق (إسرائيلية/ يهودية) لافتة للنظر

د. أسعد عبد الرحمن

لم يكن من قبيل الصدفة تعديل قانون الجنسية الإسرائيلي بحيث بات يقتضي الزام كل من يريد الحصول على الجنسية إعلان ولائه “لدولة إسرائيل” بصفتها يهودية. فالإصرار الصهيوني على هذا الأمر يعبر عن القلق الوجودي الذي يطفو على السطح الإسرائيلي تحت وطأة المتغيرات التي تشهدها الدولة الصهيونية. ويأتي على رأس هذه المخاوف المسألة الديمغرافية التي تدخل الآن في أولويات إستراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي، باعتبار أن العامل الديمغرافي هو عامل مهم في الحفاظ على/ أو تدمير يهودية الدولة. وفي السياق ذاته، يأتي التخوف من الهجرة المعاكسة،  أو لنقل عزوف عدد متزايد من يهود العالم (على رأسهم يهود الولايات المتحدة الأمريكية) عن فكرة الهجرة إلى “أرض الميعاد”، في ظل القلق الإسرائيلي المركب والمتزايد من تنامي أعداد اليهود المتزمتين.

مؤخرا، أظهر استطلاع للرأي استمرار ابتعاد اليهود الأمريكيين عن يهوديتهم، وارتفاع نسبة الزواج “المختلط” مع أبناء الديانات الأخرى، مثلما أظهر انحسارا متناميا في تأييد سياسة إسرائيل الاحتلالية. كذلك، كشف الاستطلاع الذي نشرته صحيفة “هارتس”، نقلا عن صحيفة “نيويورك تايمز”، ارتفاعا ملحوظا في منسوب اليهود غير المتدينين وتراجع نسبة من يمنحون اولادهم تربية يهودية. وعلى نحو محدد، بيّن الاستطلاع أن “58% من مجمل اليهود و71% من الذين لا ينتمون للتيار المحافظ يتزوجون زيجات مختلطة من ابناء الطوائف الاخرى وذلك مقابل 17% فقط عام 1970”. كما أوضح الاستطلاع أن “ثلثي اليهود في امريكا لا ينتمون لأي كنيس وثلثهم زينوا بيوتهم في عيد الميلاد”. بل إن الاستطلاع كشف أيضا عن أن “نسبة اليهود الذين لا ديانة لهم تزداد من جيل الى جيل حيث وصلت الى ذروتها بين مواليد 1980 فصاعدا، اذ بلغت نسبة الذين عرفوا انفسهم “بدون ديانة” بين هذه الفئة 32%، ما يشير الى تعاظم التوجه العلماني بين يهود امريكا من جيل الى جيل”. وبحسب “هآرتس”، فإن النتيجة المقلقة، أكثر من غيرها، للحركة الصهيونية أن “أكثر من 66% من اليهود لا يربون ابناءهم على الحياة اليهودية، ولا يرسلون أبناءهم إلى مؤسسات تعليم يهودية في الولايات المتحدة”. أما على مستوى السياسة، فقد رفض 83% من الذين شملهم الاستطلاع، ادعاء إسرائيل أن استمرار الاحتلال وبناء المستعمرات/ “المستوطنات” يضمن “أمن إسرائيل”، وهذا مؤشر واضح لازدياد ابتعاد اليهود الأمريكيين عن سياسة اليمين الإسرائيلي. وفي المقابل، فإن أكثر من 60% من الذين يهاجرون من إسرائيل سنويا، 12 ألفا بالمعدل، يهاجرون إلى الولايات المتحدة، أي أن ميزان هجرة اليهود بين إسرائيل والولايات المتحدة يميل عادة لصالح الأخيرة، ولكن المهاجرين من إسرائيل يحتفظون عادة بجنسيتهم الإسرائيلية، لأن القانون الإسرائيلي لا يمنعهم من ذلك. وفي شرح نتائج هذا الاستطلاع الهام، كتب الكاتب الإسرائيلي (آفي شيلون) مقالا بعنوان “اليهود.. (شعب) أخذ يختفي أصلا” يقول فيه: “اعتقد الآباء المؤسسون لاسرائيل أن انشاء الدولة سيقوي الهوية اليهودية في أماكن الشتات ايضا، وأصبحت النتيجة عكس ذلك. أهذا لأن بقاء الدولة ضاءل الخوف الجماعي عند يهود الولايات المتحدة على مستقبل الشعب وتضاءل بسبب ذلك التزامهم؟ أو ربما يكون يهود الولايات المتحدة ينظرون الى الاسرائيليين كما ينظر كثير من العلمانيين الى الحريديين أنهم حُماة الشعلة المتقدة؟ أو قد يكون ذلك نابعا من أنه تبين على مر السنين أن دولة اليهود هي كيان سياسي آخر ليست له قيم مميزة؟”.

على صعيد متمم، يأتي الحديث عن ازدياد أعداد اليهود المتزمتين “الحريديم” بفعل التكاثر، كونهم مجتمعا منغلقا اقتصاديا واجتماعيا، لكنه محسوب أساسا على معسكر اليمين واليمين المتشدد، مع تصاعد حجم وتغلغل أتباع التيار الديني الصهيوني في الجيش الإسرائيلي لدرجة أنهم باتوا يشكلون حوالي 60% من الضباط في الوحدات القتالية، على الرغم من أن تمثيلهم في تعداد السكان لا يتجاوز 13%، بل أضحى رجالاتهم يتنافسون أيضاً على قيادة الأجهزة الاستخبارية ذات التأثير الطاغي على دوائر صنع القرار في “إسرائيل”، ناهيك عن تزايد أعداد فلسطينيي 48. ومؤخرا، أفاد تقرير جديد صادر عن دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية إن “نسبة تكاثر “الحريديم” (13% في إسرائيل) حوالي 3,1% سنويا، وهي من أعلى نسب التكاثر عالميا، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ارتفاع معدل الأعمار، في حين أن نسبة تكاثر فلسطينيي 48 حوالي 2,5%، بينما نسبة تكاثر اليهود العلمانيين في إسرائيل 1,4%”. ولقد نشرت دائرة الإحصاء الاسرائيلية توقعات تكاثر السكان حتى العام 2059، وادعت أن نسبة “الحريديم” ستقفز بشكل ملحوظ، وتصل إلى 27% من إجمالي السكان، ما يعني 35% من اليهود أنفسهم، علما بأن تقريرا آخر صدر عن قسم الديمغرافية والسكان في جامعة حيفا قبل عامين، قال إن هذه النسبة قد تتحقق حتى العام 2035. وفي هذا السياق، تؤكد عديد التقارير الاقتصادية الإسرائيلية أن “الحريديم” باتوا يؤثرون سلبا على النمو الاقتصادي. وفي هذا، قالت صحيفة “ذي ماركر” الاقتصادية إن “طاقم التخطيط الاستراتيجي في مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بدأ في بحث انعكاسات هذا التطور الديمغرافي على اسرائيل”. واضافت “إن هذه الحسابات مما لا شك فيها تعد بشرى (للأعداء)، إذ أن هذا التكاثر بالاساس في جمهور “الحريديم” ومن ثم فلسطينيي 48، سيؤثر سلبا على الاقتصاد الاسرائيلي، ويلجم النمو، ويزيد من العجز في الموازنة العامة”. وتقول المحللة الاقتصادية (ميراف أرلوزوروف): “إن ما بات مؤكدا أن الحريديم والعرب سيتحولون الى نصف السكان، ولكن ليس بالضرورة أن يكون هذا مستقبلا سيئا”.

إسرائيل لا تعيش في مرحلة نموذجية كما تدعي أوساط اليمين المتطرف الذي يتجاهل حقيقة التناقضات المتزايدة المتواكبة مع معدلات القلق المتصاعد داخل المجتمع الإسرائيلي من هذه التناقضات وأيضا من “البيئة الخارجية” المعادية لها على المستويين الإقليمي والدولي. بل إن عددا متنام من اليهود وغيرهم باتوا يعتقدون أن مستقبل الكيان الصهيوني أصبح موضع تساؤل في بيئات إقليمية وعالمية متغيرة تشهد إرهاصات توالد عالم ليس أحادي القطب بحيث لم يعد قادرا، في المدى المتوسط والبعيد على ابتلاع أو مسايرة هذه الإسرائيل المنتعشة بروح الاحتلال والتوسع والعنصرية المتمادية أيضا في الغطرسة!!.