أوراق جديدة من مجلد الحزن الخاص والحزن العام

(الورقة الأولى)

يا أغلى الغاليات، يا “أم أسعد”، ها أنذا أعود إلى العاصمة الأردنية التي أعلم كم أحببت فقضيت فيها ما يقرب من نصف سنوات عمرك. أعود إليها  فأراها رمادية، شبه فارغة من البشر والشجر، ممتلئة بغابات من الحجر، تزدحم فيها البيوت والعمارات، منافسة ازدحام السيارات. فبعد انتهاء أيام مراسم “مجلس العزاء” بيوم واحد، غادرت (عمان) للمشاركة في اجتماعات “القيادة الفلسطينية” في القاهرة … دون “المرور” عندك مودعا، كعادتي الصلبة، كلما سافرت. وها أنذا أعود إليها … لأول مرة دون أن أزورك أولا، كعادتي العنيدة، كلما عدت. وبينهما، جاءت تلك “الجمعة الحزينة” حيث كنت لا أزال في العاصمة المصرية، وطبعا لم أهاتفك في الثانية ظهرا بتوقيت الأردن –كعادتي الثابتة- لمشاركتكم “وجبة الغداء” عن بعد إذ لطالما جمعت مختلف أطراف العائلة على مائدتك العامرة كل يوم جمعة. فبالله عليك، يا أم أسعد، كيف طاوعتك نفسك على مغادرتنا قبل أن تعلمينا الصبر على رحيلك الأبدي؟! طبعا، تقتضي العادات الشرقية ومقتضيات “الرجولة” خاصة عند الابن البكر (“كبير العائلة”) الذي هو أنا، أن أتجلّد … فلطالما تجلّدت!! ويبدو أنني أتقنت دوري هذا بحيث لم يفطن الفطناء إلى ذلك الحزن الذي يأكل قلبي، ولم يلحظ النبهاء الدمع يملأ عيني، و”خدعت” الأهل والأصدقاء فلم يشعروا بتلك الغصة في الحلق وهي تكاد تخنقني. أما  خلايا عقلي فما زالت تتمزق بين قوة حضورك الطاغي يوم كنت في هذه الحياة الدنيا، وبين قوة غيابك الساحق يوم رحلت … فأيهما أغلب؟ ما عدت أدري؟!! وهل من عاقل أو مجنون يقنعني بأن الحياة، بعدك، هي الحياة ذاتها بوجودك؟! مستحيل، مهما طال الزمن! ويشهد الله، ما فهمت – مثل اليوم- ما قاله الحبيب محمود درويش يوم أعلن عن “في حضرة الغياب”، فكم في غيابك –وفي غيابه- حضور عزيز!

 

(الورقة الثانية)

 

لطالما كانت “ام اسعد” مصدرا دائما لبث “الطاقة الإيجابية” لكل مجالسيها. وهذه الحقيقة – مضافة إلى خبراتها وعقلها الواسع التحليلي والحضاري- صفات منحتها لقب “صديقة الجميع”. لا تعرف التشاؤم او حتى التشاؤل! متفائلة بطبيعتها. هذا هو “تاريخها” معنا، مثلما كان هو “حاضرها” قبل الرحيل المدوّي، باستثناء “حالة يتيمة” وجدتها عليها، وصعقت بها، قبل قرابة شهر من وفاتها المفاجئة: ففي رحلتها اليومية لبيت الخالة “مثال” (“أمي الثانية” وصديقتي وحبيبتي … و”مثالي” الذي يحتذى) وجدت “أم أسعد” في حالة زهد (ولا أقول تشاؤم) من هذه الحياة وهي التي لطالما أحبت الحياة!!! طبعا، رمت أسباب ذلك الزهد على حالتها الصحية (رغم أنها غير باعثة على الزهد إطلاقا!!!). لكنني كنت أعلم (بدون أي تصريح منها) انها –في واقع الحال- زهدت في هذه الدنيا بعد ان تيقنت من مرض شقيقتنا/ابنتها الغالية على الجميع. وطبعا، ولا حتى مرة واحدة، هي “فتحت” معنا سيرة مرض الحبيبة (بانة) على نحو مباشر رغم الطبيعة “المباشرة جدا” لأم أسعد (وهي طبيعة لطالما أذهلت الكثيرين، ولربما أزعجت البعض الذي لا يحتمل صراحتها). يومها، وجهت الكلام لي وأنا أقود السيارة: “ولم هذه الحياة”؟ ثم أردفت: “هذا الملعون عزرائيل يزورني، ثم يلوكني/ يمضغني مرارا وتكرارا لكنه دوما يبصقني من جديد إلى دائرة هذه الحياة الدنيا”؟ صفعتني “الحالة” مثلما صعقتني العبارة. لكنني سرعان ما اجبتها (على غير عادتي) بألم وبغضب وبتحد: “من أين جئت يا “أم أسعد” بأم أسعد “الجديدة” هذه؟! من أين لك كل هذا الإحباط؟ ومم تشكين؟ هل ضروري تذكيرك بالقول المأثور: “تهون مصيبة المرء حين يرى مصائب غيره”؟ “ألا ترين معاناة من حولك”؟! ثم ما هي “مصيبتك”؟! ما شاء الله عليك، قدمان يحملانك، وعقل يشغلك ويشغل الآخرين من حولك، ولسان شغال اكثر من ألسنة المحامين(!!)، وها أنت الكل حواليك: تزورين وتزارين، وأسبوعيا – مرة أو اثنتين- تتبضعين لكي تطبخي، بنفسك، لكل العائلة وجبة غدائنا اليومية؟! وما أن همت بالرد حتى أضفت، بنبرة عالية، والدمع في عيني: “ألا تفكرين بنا؟ بالخالة/الأم مثال، بأشقائك، بأبنائك، بل على الأقل – يا سيدتي – بأحفادك وأبناء أحفادك، الذين ستهتز بهم وبنا الدنيا إن استطاع “الملعون إبليس … مضغك ثم بلعك”؟! عندئذ، ولأول مرة في “تاريخها”/ ويا للغرابة، … سكتت “أم أسعد” ولم ترد أو “تحاجج” (وهذه أيضا صفة معروفة عنها وأيضا لا تنال دوما رضى الجميع)! ثم، فجأة، عدنا إلى أحاديث المزاح التي لطالما حكمت علاقتي معها، او بالأحرى: علاقاتها مع الجميع.

 

(الورقة الثالثة)

 

حسبي أن تكوني أمي، لكن من عرفوك أطلقوا عليك لقب “أم الجميع” حين غمرت الجميع، الأقرباء والأصدقاء، من مخزون أمومتك الطاغية. ويكفيني أن تكوني صديقتي، لكن من خبروك أسموك “صديقة الجميع”، فأنت –بخبراتك ورجاحة عقلك وحضاريتك الصالحة لكل زمان ومكان وإنسان- دخلت إلى قلوب الكبار من الأهل والأبناء والشباب من الأحفاد وأصدقائهم، فاعتبروك صديقتهم. والأهم، كثيرون هم من شهدوا لك مؤخرا بما كنت تواضعا منك، وحرصا منا عليك، نتكتم عليه: دورك الوطني. وفقط، قبل أسبوع من رحيلك المفاجئ، تفاجأ جمهور “منتدى بيت المقدس” في العاصمة الأردنية حين سجّل لك من زاملوك صبية يافعة وعلى رأسهم (وائل عبده السجدي) كونك قد سبقت الشباب قبل الصبايا بمبادرة عرفت عنك (في احد شوارع باب الساهرة في مدينة القدس في ثلاثينيات القرن الماضي) حين قمت بإجراء جريء نجح في تعطيل حركة قافلة شاحنات وقود جيش الاحتلال الانتدابي البريطاني تعطيلا امتد على مدى ساعات طوال. وكم من مرة واكبنا “رجع صدى” دورك ذاك (الذي جاء على لسان أكثر من أخت وأخ) على امتداد أيام تلقي العزاء بغيابك الصاعق. طبعا لم أشاركهم –في زحمة العزاء الحاشد- بحقيقة تخصّك (وأنت السيدة الفاضلة، ابنة المدينة، والمتحررة من طقوس التخلف الاجتماعي) حين لجأت إلى التخفي في زي فلاحة فلسطينية محافظة، كي “تهرّبي” نفسك إلى قرية في شمال الضفة الغربية حيث قمت (بناء على طلب مني وأنا في بيروت) بتسليم مستحقات مالية متواضعة لعائلة أحد أول شهيدين (اديب عساف) من شهداء منظمة “شباب الثأر” في العام 1964. كما لم أحدثهم عن دورك في مقارعة (ضباط وأفراد) من جيش الاحتلال الإسرائيلي في كل مرة قمت فيها بزيارتي حين كنت رهن الاعتقال، سواء في سجن الرملة أو سجن نابلس أو سجن رام الله. وكم شهدتك –وغيري- رافعة الرأس في تحديك “لهم” مما رفع رأسي ورؤوس زملائي وعزز من صمودنا في تلك السجون.

 

**********

(الورقة الرابعة)

 

شكرا لك، يا “ست الحبايب”، ما أورثتنا اياه من تراثك الذي غلب عليه –على نحو ساحق- الإيجابي على السلبي! فقد علمتنا الشجاعة الفائقة (رغم أنك كنت أحيانا، ونحن أيضا، نتجاوزها نحو المغامرة). وقد علمتنا الكبرياء الحاد (رغم عبورك أحيانا، ونحن أيضا، الخط الفاصل وصولا إلى الكبرياء المريض). وقد علمتنا الجهر بالحق والمعاندة فيه (رغم تخطيك أحيانا، ونحن أيضا، تخوم ذلك إلى العناد غير المحمود). كما أنك علمتنا الحب الجارف تجاه “الأهل/الأصدقاء” وتجاه “الأصدقاء/الأهل” (رغم معاناتك احيانا، ونحن كذلك، من خدائع صدرت عنهم ذبحتك –من الوريد إلى الوريد- وذبحتنا). ثم علمتنا الحرص المالي بعد أن عصفت بنا سنوات اللجوء بفعل الاحتلال الصهيوني، ثم أدمتنا سنوات القمع بفعل نظم عربية تعارضت سياساتها مع قناعاتنا، فحرمت نفسك لفترات ليست بالقصيرة (ونحن أيضا) من الاستمتاع بالقرش الأبيض (الذي جاهد من اجله الوالد الحبيب) فوفّرناه –تحوطا- من تكرار اليوم الأسود (أو، بالأحرى، الأيام السوداء)! ثم علمتنا الاستقلالية في حياتنا (رغم أن ذلك حرمنا، وربما حرمك، من إقامة مشتركة في بيت واحد كنت بها، لو قبلت، ستغمريننا بدفء قربك الذي، رغم ذلك، لم ولن يفارقنا). وكم “ضعنا” يا والدتنا بين ما أورثتنا اياه من “الجينات” (التي جعلتك بمثابة والدنا الفعلي) وبين ما أورثنا إياه الوالد الحبيب من “جينات”، إذ لعب –بطبائعه “المسيحية” الأصيلة- الدور المحبب لنا المقرون عادة بدور “الأم الشرقية” أي التسامح، والتواضع، والحنان، والعاطفة، وإدارة الخد الأيسر لمن كان يضربنا على خدنا الأيمن. والحال كذلك، كم كنا “ضحايا” “الجينات المتضاربة” بينكما فلعبت بنا تلك “الجينات” (الجنّيات!!) ألعابها … وألاعيبها!

 

(الورقة الخامسة)

 

بدون أدنى شك، بت تعلمين الآن انك –تماما كما طالما تمنيت- قد غادرت هذه الدنيا: بكامل الكرامة ، وبأعلى العزّ، وبمنتهى الإباء. فطوبى لك يوم ولدت، ويوم رحلت، ويوم نبعث وإياك أحياء في “الجنة السماوية” – كما كنا دوما  في “الجنة الأرضية” – تحت قدميك. هذا الرحيل الأنيق يليق بك، فأنت –بفضل رضى الله عنك-  أتى بك، إلى هذه الدنيا، أنيقة الجوهر والمظهر، ثم استدعاك اليه بوداعة الحمام، وكبرياء النسر، فحباك، في حياتك وفي مماتك، قوة جذع السنديانة، والرأس – أبدا – مرفوع. فطوبى لك رحيلك الأنيق … ولنا أيضا “فرح” ذلك الرحيل!

 

*************

 

(الورقة السادسة)

“فرح” الرحيل؟! نعم! إنه “فرح: أسلوب الرحيل”. أولم يكن نداؤك الأبدي، منذ ثلاثين عاما او يزيد، “يا رب الشفاعة … موت بدون عاهة”؟ أوليس هذا آخر ما قلته لنا –مي وأنا- قبل رحيلك بتسع ساعات (وكنت، ساعتئذ، بكامل صحتك ومعنوياتك) حين أقبلنا عليك، في زيارتنا اليومية لك المملوءة دائما بالمداعبات؟ والآن … الآن (هل تصدقين؟!!!) جاءتني مكالمة عزاء جديدة قالت عنك : الحمدلله، لقد غادرتنا “أم أسعد” –مثلما عاشت- بكامل الألق! هذا هو عزائي، إن كان ثمة عزاء، يا “سيدة الحبايب”! وفعلا، لم أستغرب من نفسي قولي، عند مدخل قسم الطوارئ في المستشفى لحظة سماع خبر وفاتك: (“الحمدلله”). فلحظتئذ، انتهت اطول وأقسى نصف ساعة في حياتي. نصف الساعة المريرة تلك بدأت مع إيقاظي وانتهت مع وصولي إلى المستشفى. نهشتني ومزقتني خلالها أنياب ومخالب شتى الهواجس السوداء. هل، هذه المرة، نال منها (عزرائيل) فرحلت. ام أصابها فالج؟ شلل دماغي؟ شلل نصفي؟ أم أصابتها جلطة ما؟ والأهم: ما هي التداعيات؟ فالجميع قد بات يعلم أن الكبرياء العالي عند “أم أسعد” لن يتقبل –بعبارتها المتكررة- أن:  “يرميها المرض” (يطرحها في الفراش) فيصيبها بعجز يجعلها “عالة” على أحد! طبعا، تعلمون ان امنيتي الكبرى تلخصت في أن تخرج من المستشفى على قدميها وبكامل وعيها (مثلما حدث أكثر من مرة سابقة). لكن هل تعلموا أنني –في أعماق أعماقي- تمنيت ما تمنته هي دوما: الموت إن كان بديله عجز “يرميها”!!! ما أصحب هذه “الخيارات”؟ ما أفظعها! أما تلك “الحمدلله” فلم أقلها –يا حبيبتي الأغلى- فقط على قاعدة : “الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه”، وإنما نطقت بها أيضا لأنك قد نلت أمنيتك بمغادرة الدنيا وأنت، راضية مرضية،  تهمين بمغادرة سريرك المنزلي ذهابا إلى “الحمام” كعادتك كل صباح فداهمك “الموت الحق”. إنه –حقا كما رغبت- رحيل مفعم بالأناقة … والألق، فطوبى لك!

 

(الورقة السابعة)

 

مسألة أخرى! حقا، قد “فرحت” بهذا الأسلوب (السريع؟!) في الرحيل لأنك –رغم كونك “أب العائلة” لفرط صلابتك، وكون أبي رحمه الله “أم العائلة” لفرط عاطفته الزائدة – كنت أسمعك دوما تبتهلين إلى الله بصوت خافت لا يسمعه إلا من يستطيع سماع صمتك مثلي. قد “سمعتك” تتمنين أن لا يتكرر –في حياتك- موت أي منا (نحن أبناؤك). عند هذه اللحظة، يتوجب علي أن اعترف! فمنذ ثلث قرن، منذ رحلت حبيبتي/ شقيقتي “جمانة” عن عمر يناهز (37) عاما، أصبحت –حتى درجة الجبن والرعب- أكره الموت: موتي، أو موت شقيقتي/حبيبتي الوحيدة المتبقية (بانة) أو موت شقيقي الوحيد/حبيبي (سعد). فموتي، بعد جمانة، كان سيدمّر تماما والدتي (وطبعا المرحوم والدي قبل وفاته). أما موت (بانة) أو (سعد) لا قدر الله قبلنا فكان بمثابة “جبل الديناميت” الكفيل بتدمير كلينا: أم أسعد … وأسعد!!!)  فهل أقول “شكرا” (!!!) كونك رحلت (ولولا مخافة الله لقلت: اخترت الرحيل) كي لا تموتي، كمدا وغما، بعد موت أي منا؟ ذلك أن موتي أو موت أي من حبّتيّ العينين (الشقيقة “بانة” أو الشقيق “سعد”) في مدى حياتك كان كفيلا بجعلك تغادرين “الحياة الدنيا” في زمن قياسي من جهة، مصحوبة بالأسى يملأ قلبك (وربما الجنون يعصف بعقلك). فلو –لا قدر الله ولا سمح- وقع هذا الهاجس القاتل وأصبح حقيقة، لجاءت ميتتك قاتلة لنا، بل كفيلة بأن تميت الحيّ منا قبل أن تميتك! ومع ذلك، ها أنذا أقول لك: “شكرا” كونك برحيلك قد اعدت لي شجاعتي! فوالله، بعد تلبيتك لنداء الرب، ما عدت اخشى الموت، تماما مثلما دوما كنت، منذ وعيت على هذه الدنيا … وحتى وفاة (جمانة)!!!

 

(الورقة الثامنة)

 

النصوص، على بلاغتها وعلميتها، لا “تفي” الموت، في حيواتنا، حقّه الكامل. أما “الوقائع على الأرض” (أي الوفيات المتلاحقة للناس من حولنا) فهي “المتمم الكامل” لإيفاء “الحق الناقص” للموت. فعندما تتسرب تلك الوقائع إلى أعماقنا، تشرّبها نفوسنا حتى الثمالة بوصفها حقائق صلبة لا مراء ولا هزل فيها. فأنت، منذ بدء وعيك، يأتيك يوميا خبر وفاة القريب، أو الصديق، أو الجار، أو الإنسان غير المعروف لك لكنك تقرأ أو تسمع عن رحيله! أما الأشد إيلاما على النفس فيأتي مع رحيل عزيز من الأقربين الذين “يصرّون” على المغادرة تباعا، سواء كانوا من ‘الأهل/الأصدقاء’ أو ‘الأصدقاء/الأهل’! ومع موت كل واحد منهم (خاصة من مجايليك أو من هم أصغر سنا) يموت/يجفّ جزء من تلافيف دماغك وخلايا قلبك ونابع الدمع وراء عينيك، فيزداد جلدك “سماكة”، وتتشرّب أعماق نفسك فكرة/حقيقة الموت، فإذا أنت –ويا للهول- سائر على درب التحول إلى “تمساح بشري”! أنقمة هذه أم تراها نعمة؟! لست أدري!

 

***********

 

(الورقة التاسعة)

 

لا أدري إن تحكّمت في سلوكي مقولة أشد مما تحكّمت به مقولة “رضى الوالدين” (بعد مرضاة الله طبعا). وما ظننت، للحظة أن “الطمع” قد يستبدّ بي تجاه والديّ (رحمهما الله) بشأن أي من متاع الحياة الدنيا، اللهم باستثناء رضاهما. ولم يكن ذلك “الطمع” طمعا فحسب، بل كان –حقا- “جشعا” لا أشبع معه أو أرتوي بأي حال من الأحوال وبأي ظرف من الظروف!! وأجدني اليوم عاجزا عن اكتساب مزيد من رضاهما (الذي لا ازال طامعا فيه) بل أتحرق إليه! وتساءلت، بيني وبين نفسي، عن أنجع سلوك قد أؤديه وصولا إلى الاستزادة من رضاهما… فلم أجد سوى الدعاء لهما! وها أنذا، أدعو لهما بالرحمة والسلوان (على فراقهم لنا وفراقنا لهم نحن الأبناء والأحفاد والأقرباء والأصدقاء، وكذلك السلوان لهما ولنا أيضا على اوضاع قضيتنا الفلسطينية وقضيتنا العربية التي طالما أدمت قلبيهما). وصدقا، ودون مبالغة، أدعو لهما بالرحمة، فجرا، وصباحا، وظهرا، وعصرا، ومساء، وليلا. ثم ادعو لهما حين أشارك في جنازة أو مجلس عزاء، أو كلما مررت من شارع بيتهما (وأحيانا أتقصد المرور) أو حين أقترب من المحيط العريض للمقبرة حيث ووريا الثرى. بل وجدتني أدعو لهما كلما صادفت من صادقا وأحبّا من البشر أو الورود أو الشجر، أو كلما تذكرت عبارة أو نكتة أو حركة صدرت عن أي منهما! بالمختصر: أدعو لهما في كل لحظة لا تستغرقني فيها الحياة (بمشاغلها ومشاكلها وأفراحها وأتراحها) فيغيبا عن خاطري … لكن –دوما- إلى حين!

(الورقة العاشرة)

 

ختاما، ومنطلقا من “نقطة التقاطع” في شخصية والدتي ووالدي وتعبيرا عن ما يحبانه على نحو مشترك، أجدني في لحظة عاطفية (أو عاقلة) تسيطر فيها على خلايا دماغي، وعلى حجرات قلبي، وعلى سطور قلمي، وتدفعني إلى إطلاق نداء: إن غياب عميدتنا –يا آل عبدالرحمن (البرغوثي) ويا آل قرش – تدفعنا إلى تعزيز الصفوف المتراصة التي (بحمد الله) لطالما كانت فيما بيننا والتي لطالما كانت مثار إعجاب. وبالنيابة عن كل فرد منا (وبالأصالة عن نفسي) أقول: من يقع عليه “حق” لصالح فرد/مجموعة من أفراد العائلتين، أقول: ماليا ومعنويا، “رقبتي … سدادة”، وها انذا أعتذر عن أي خطأ حقيقي /أو متصور ارتكبته أو أيا من أشقائي أو ارتكتبه والدتي … مسامحا، في الوقت ذاته، بأي خطأ حقيقي /أو متصور تم ارتكابه من أي منكم بحق والدتنا أو أي منا، علما بأننا لا نطلب … عن خطئكم ذاك أي اعتذار. فتعالوا إلى دفء محبة تعوض ما فقدناه بغياب أم أسعد وأبو أسعد وأحباء كثر آخرين!

 

**********

 

يا رب عندي لك رجاء: أكرمني برمي “سيئات” والدتي ووالدي على كتفيّ، وخذ –أرجوك – كل رصيد حسناتي لصالحهما … اولست القائل: “وبالوالدين إحسانا”؟