تهويد النقب: المعاني والمساعي

في الوقت الذي تركز فيه الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة جهدها على تهويد القدس والضفة الغربية المحتلة والأغوار، والجليل في شمال فلسطين، تظهر في الصحافة العربية، على استحياء، أخبار المساعي الإسرائيلية لتهويد وطرد أهالي منطقة النقب في جنوب فلسطين، رغم حيوية هذه المنطقة وأهميتها ضمن المنظور الاستراتيجي الإسرائيلي. فعملية تهجير عرب النقب من أخطر مشاريع التهويد التي تنفذ على نطاق واسع، حيث تعتبر هذه المنطقة – من وجهة النظر الإسرائيلية – موقعاً طبيعياً لتطوير الصناعة والسياحة والزراعة من جهة، واستيعاب مئات الآلاف من المهاجرين والمهجرين اليهود القادمين من شتى أنحاء العالم، من جهة أخرى.

المعاناة التي يشهدها النقب (200 ألف عربي يسكنون في 15 بلدة ثابتة وقرابة 100 ألف منهم بالقرى التي لا تعترف بها المؤسسة الإسرائيلية، في حين يبلغ عدد اليهود 386 ألفا موزعين على 136 بلدة وقرية زراعية) تتجلى في قرية العراقيب التي تشكل رأس الحربة في مواجهة الهدم المتكرر والمتواصل (22 عملية هدم) لإزالتها عن الوجود، تحت حجج وذرائع من نوع أنها من “القرى غير المعترف بها” رغم كونها قائمة وموجودة قبل قيام دولة الاحتلال، فيما يعيد السكان بناءها بعد كل عملية هدم. هذه القرية تقف في الصف الأول في معركة الدفاع والبناء المستمر، فلا مجال للاستسلام أو الخضوع أو الارتهان لانتصار المحتل ونجاحه في فرض سياساته وشروطه وإملاءاته، علاوة على أن هذا التعسف سينسحب على باقي القرى والتجمعات العربية الأخرى والمصنفة ضمن رؤية المحتل السياسية “بالقرى غير المعترف بها”!!

في نهاية تشرين ثاني/ نوفمبر الماضي، رصدت حكومة اليمين الإسرائيلية ميزانية قيمتها 25 مليون دولار للشروع في تنفيذ مخطط “طريق النبيذ” الذي يقضي بإقامة مزارع فردية لليهود على حساب الأراضي العربية بالنقب، حيث صادقت “لجنة القانون والدستور” بالكنيست على مخطط الاستيلاء على الأراضي العربية وتهويد النقب، من خلال تخصيص مسطحات واسعة من الأراضي لليهود ومنحهم الهبات والمساعدات المادية. وحسب المخطط، ستقام 100 مزرعة جديدة، إضافة إلى 41 مزرعة فردية أقامها اليهود بشكل غير قانوني، وستخصص مساحة مقدارها 80 دونما مجانا لكل عائلة يهودية توافق على الاستعمار/ “الاستيطان” بالمنطقة. وهو قانون بحسب النائب الفلسطيني بالكنيست (طلب الصانع): “عنصري يأتي ليساعد المستوطنين مخالفي القانون، ومن أجل شرعنة تجاوزاتهم وحماية أصحاب المزارع الفردية، وشطب الملفات الجنائية التي فتحت بحقهم، لإقامتهم مزارع بشكل غير قانوني”. وبحسب الناطق بلسان المجلس الإقليمي للقرى العربية بالنقب (سالم الوقيلي) فإن “صراع فلسطينيي النقب مع المؤسسة الإسرائيلية هو على مليون دونم مملوكة للعرب وتهدف إسرائيل سلبها منهم، حيث باشرت بإقامة 41 مزرعة لليهود خصصت لها مساحة 180 ألف دونم، وذلك على حساب القرى العربية غير المعترف بها، التي يقطنها 100 ألف مواطن يملكون 240 ألف دونم”. وخلص إلى القول إنه “إلى جانب المزارع الفردية التي أسميت (طريق النبيذ)، ستقيم الحكومة الإسرائيلية 11 قرية منها قرية واحدة مخصصة لتركيز العرب”. كما وتم مؤخراً إطلاق حملة إعلامية واسعة غايتها تشجيع العائلات اليهودية على الانتقال للسكن في النقب. وذكرت صحيفة “معاريف” على لسان البروفيسور (يرمياهو برنوير) “أنه من المتوقع أن يتم توطين حوالي (250) ألف مهاجر يهودي جديد في منطقة النقب، في الوقت الذي خططت فيه حكومة شارون لتوطين مليون يهودي”.

وبحسب مصادر وصفت بالمطلعة، شككت صحيفة “يديعوت احرونوت” من إمكانية حل مشكلة عرب النقب، واعتبرتها غير قابلة للتطبيق، مؤكدين رفض موافقة عرب النقب الخروج من أراضيهم بعيدا عن “المغريات”، باعتبار “إن الموافقة تعني التوقيع على تنازل عن المطالب من الدولة”، مشيرة إلى “نحو 3 آلاف دعوى ملكية قدمها أهالي النقب بشأن ملكيتهم لأراض تصل مساحتها إلى نحو 780 ألف دونم، فيما تعرض الحكومة الإسرائيلية على أهالي النقب ما لا يتجاوز 200 ألف دونم فقط”. وفي هذا يقول الكاتب (زئيف تسحور): “أُنشئت اللجنة الاولى لحل مشكلة البدو في النقب على يد بن غوريون بعد انشاء الدولة بزمن قصير، وكان الحل الذي اقترحته تهويد البدو. تجاهلت هذه الفكرة الحمقاء البدو أنفسهم. يتذكر شيوخ البدو الاهانة. ولم يجهدوا انفسهم في تناول الامر، واثقين بعمق الجذور التي ضربت على مدى الاجيال في ارض الصحراء الخشنة. تعلموا منذ ذلك الحين ان معارضتهم السلبية تنتصر على جميع اللجان التي عددها كعدد الحكومات. كلها مخزونة فوق رفوف ارشيف الدولة حيث يعلوها الغبار. الغبار هو مصطلح شديد البدوية، فهم يعيشون في غبار الصحراء وتعاملهم الدولة كأنهم غبار انسان… هناك وضع في تاريخ البشر ليس له تسجيل ملكية في مكتب الطابو لكن توجد حقوق أعمق”.

ينفذ الاحتلال سياسة ممنهجة وخطة مدروسة تندرج في إطار عملية تهويد النقب (50% من مساحة فلسطين التاريخية) تحت يافطة وذرائع إعادة الهيكلة وتطوير النقب بمعنى “حشر” أكبر عدد من السكان البدو العرب في أقل مساحة جغرافية ممكنة. فالمخططات الإسرائيلية تهدف الى تجميع بدو النقب في ثلاث تجمعات رئيسية (ديمونة وعراد وبئر السبع)، وفي سبعة قرى بدل من سبعين قرية منتشرة على أرض النقب منها 45 قرية وتجمع تعتبرها إسرائيل “قرى غير معترف بها”!! في هذا السياق، يخوض عرب النقب حرباً شرسة مع سلطات الاحتلال حماية لأراضيهم والدفاع عنها، حيث تقوم إسرائيل بزرع النقب بالتجمعات “الاستيطانية” والمزارع الخاصة والحكومية الممتدة على مساحات واسعة من الأراضي المحاصرة بالتجمعات السكانية البدوية، ناهيك عن إغلاق مساحات واسعة من الأراضي بغرض التدريبات والمناورات العسكرية. لذا، الهجمة في النقب، كما في الجليل والقدس، الهدف منها واحد: الطرد والتهجير القسري وتواصل النكبة والتشريد، وليس أمام الشعب الفلسطيني سوى الصمود والثبات على أرضه، وعدم السماح بتكرار ما حصل عام 1948 بأي شكل من الأشكال، وهو ما تصر عليه قرية العراقيب وغيرها من قرى النقب.