نموذجان جديدان في تنمية مجتمع عربي

لطالما اعتبر العمل الخيري العربي الخطوة الأولى فى تاريخ تأسيس الجمعيات التي يتأصل فيها عمل الخير، كجزء لا يتجزأ من الموروث الثقافي في الوجدان العربي، فضلا عن الوازع الديني المتماشي مع الأحكام والمباديء والتعاليم الدينية، في الإسلام والمسيحية، الذي يحض على التكاتف والتكافل الاجتماعي بين أعضاء المجتمع. ولطالما كان العمل الخيري في العالم العربي سلوكا حضاريا ينمو مع المستويات المتقدمة في الثقافة والمسؤولية حيث يلعب العمل الاجتماعي التطوعي دورا مهما وإيجابيا في المجتمع.

مؤخرا، تأسست “جمعية خليل السالم الخيرية” التي انطلقت فكرتها الرائدة من قبل أحد العاملين في دولة الإمارات العربية المتحدة، فأنجزت باكورة مشاريعها مشتملا على مسجد يعتبر تحفة معمارية مع تجهيز كامل المبنى بأحدث أنواع الصوتيات والإضاءة والسلامة والأمن. كما يشتمل المنجز على مركز ثقافي متميز الأهداف، وبازارا جميلا، إضافة إلى مصلى يومي للرجال وآخر للنساء. وأحد أبرز أهداف “الجمعية” خدمة المجتمع الأردني من خلال دعم المحتاجين تعليميا وصحيا واجتماعيا وتعزيز التعاون والتكافل بينهم والتركيز على أهمية العمل التطوعي في المجتمع. بل إن طموح “الجمعية” يتخطى هذا المستوى بفضل هدفها الساعي توفير حلول تشغيلية وإيجاد برامج تدريبية وتسويقية ومساعدة أصحاب المهن الحرفية واليدوية في منطقتها الأقرب، من خلال إقامة ودعم المؤسسات التعليمية والصحية ودور الرعاية الاجتماعية وإجراء البحوث وتنظيم الدورات التي تدعم العمل الخيري والتطوعي.

تكشف حقائق هذه “الجمعية” إدراك ووعي القائمين عليها لأهمية التعاون مع الآخر (مؤسسات المجتمع المدني أو الحكومة) لإيجاد حلول للقضايا الاجتماعية. وهذا مؤشر على نجاح متوقع للجمعية لتصبح أحد الأركان الجديدة للمجتمع المدني. كما تتميز “الجمعية” بأنها ليست كغيرها من الجمعيات الخيرية يغلب عليها طابع الرعاية الاجتماعية فقط، بل يتجاوز الأمر ذلك وصولا إلى طابع التنمية الاجتماعية الذي يتطلب المشاركة في تحديد شكل الخدمات التي يحتاجها المجتمع. والقارئ بتمعن لأهداف “الجمعية”، يلحظ أيضا أنها مدركة لضرورة معالجة ما تعانيه جمعيات العمل الخيري في المجتمعات العربية من معوقات إدارية وتنظيمية تؤثر على تطور أدائه والوصول به إلى الوجه الأكمل، وخاصة ضعف الخبرات والمهارات الإدارية، وقلة الدورات والبرامج التدريبية، وهو ما أكدت عليه أهداف “الجمعية” بالقول: “إجراء البحوث والدراسات وتنظيم الدورات التي تساهم في دعم العمل الخيري والتطوعي”.

وفي سياق متمم، لعلنا نعرج على جمعية رائدة غير جديدة تماما، وإن كانت أهدافها ومساعيها تصب كذلك، على نحو متميز، في صالح المجتمع، ألا وهي “مؤسسة خالد شومان”. فقد بادرت زوجة المصرفي الكبير وولداه، في ذكرى رحيله، بإنشاء مؤسسة ثقافية تحمل اسمه أطلق عليها اسم “مؤسسة خالد شومان” تعمل بمبادئ ووحي أفكاره، مؤمنة برؤيته لنهضة مستقبلية في العالم العربي. وهي المؤسسة المتعددة الأنشطة التي تقدم الدعم في مجالات التعليم والطب والفنون، حيث توفر “المؤسسة” منحا للطلبة المتفوقين في الأردن والخارج، كما تقدم تبرعات لمراكز طبية مثل مركز الحسين للسرطان، وهي التي عززت دور “دارة الفنون” لتكون المنبر الحيوي المتجدد الذي يحتضن الفن والفنانين الأردنيين والعرب المعاصرين ويستقطب الطاقات الإبداعية ويدعمها، والتي ساهم ترميم مباني دارتها وإعادة إحيائها في الحفاظ على الموروث التاريخي والحضاري للأردن، وجعلها “دارة” انموذجا على امتداد الوطن العربي.

ليس المقصود من الحديث عن “جمعية خليل السالم الخيرية” و”مؤسسة خالد شومان” إبراز دورهما المتميز فقط. ذلك أن رغبتنا الحقيقية تكمن في دعوة كل الجمعيات الخيرية والتطوعية، بما فيها مؤسسات المجتمع المدني، لإدراك مغزى كون سر النجاح يكمن في التخطيط. فهو سمة بارزة في الحالتين قيد البحث (دون أن يقتصر عليهما وحدهما) ينبغي أن يعمل بها كل من يطلب ويسعى إلى النجاح سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات أو حتى الحكومات والدول. فالتخطيط يوفر الجهد والوقت والمال ويبعد العشوائية عن المشروع. وشرط التخطيط يمنح هكذا مشاريع الاستمرارية، وهو الأمر الذي عانت وتعاني منه كثير من الجمعيات والمؤسسات، فنراها ترتبط بشخص دون غيره أو تقدم على مشاريع باهظة الثمن تؤدي إلى توقفها بعد مرور سنوات قليلة على إنشائها.

في هذا السياق، يجدر الحديث عن مقومات نجاح العمل الاجتماعي. فأي عمل يحتاج إلى شروط مختلفة كي ينتج بحيث تستفيد منه كافة الفئات والشرائح المختلفة للمجتمع. والعمل الاجتماعي كغيره من المجالات يحتاج إلى مقومات محددة حتى يؤدي دوره بفاعلية في المجتمع, أولاها، أن يكون العمل الاجتماعي عملا جماعيا, يتصدى له أفراد المجتمع أو ممثليهم. وثانيها، إدراك إن هدفه هو تحسين فرص الحياة الاجتماعية وزيادة معدل الرعاية الاجتماعية. وثالثها، عدم تجاهل معايير ثقافة المجتمع لضمان تحقيق الأهداف المرجوة من العمل الاجتماعي. ورابعها، الإستناد إلى الحقائق والإحصاءات والمعلومات الدقيقة, والإستفادة من نتائج البحوث والدراسات السابقة. وخامسها، تنمية الرأي العام, وإيقاظ الوعي الاجتماعي بخصوص مشكلات المجتمع من حيث خطورتها وآثارها السلبية, وضرورة حلها. وسادسها، وربما أهمها توفير الموارد من كل وقفيات دائمة كي لا يكون حالها كما الشهاب: يضىء لفترة وجيزة.. ثم ينطفىء!

من هنا تأتي أهمية مشاركة مؤسسات المجتمع المدني في التنمية المستدامة حيث تنبع أهميتها من جهة تعزيز شراكتها على مستوى الهيئات الحكومية وبحيث لا يبقى عملها منفصلا. ومثل هذا الأمر يتم من خلال منح هذه المؤسسات دورا أوسع في التنمية المستدامة بحيث تضطلع بدور حيوي في توفير الخدمات في مختلف مجالات الحياة، بما فيها التعليم والصحة والإعلام وحقوق الإنسان وحقوق المرأة ومراكز البحث والتدريب التنموي والمهني، من أجل النهوض بجميع فئات المجتمع للوفاء بمسؤولياتهم المتزايدة في بناء مجتمعهم حتى لا تصبح أي فئة عبئا ثقيلا ان لم يتم الأخذ بيدها ودمجها واعطائها أدنى حقوقها ليس لبناء مجتمعها فحسب، وإنما أيضا من أجل أن تكون فاعلة ومؤثرة فيه.