المسيحيون العرب: مسؤولية الأغلبية تجاه الأقلية

“مسلمون.. مسيحيون = مصر”، “محمد وحنا.. يعملوا مصر جنة”، شعاران من بين عديد الشعارات التي رفعها الشباب المصري في ثورته، تؤكد على عمق الصلة بين المسلمين والمسيحيين في العالم العربي، وتكشف زيف الداعين للفتنة الطائفية في أكبر بلد عربي. ومع أن العلاقات الاسلامية المسيحية في العالم العربي، عبر التاريخ، تميزت بوجود مناخ وطني قوامه التعايش الأخوي والمواطنة المشتركة، فان العلاقات – المبنية في الماضي على المساواة والعدل – أصيبت بشروخ، فيما ساهمت الحروب والأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بهجرة الكثيرين منهم، خاصة في فلسطين، والآن في العراق، وقبلها في مصر، إلا أننا رأينا كيف اختفت الشروخ من أرض الكنانة في أول لحظات الحرية في “ميدان التحرير”.

ان هجرة المسيحيين العرب غير مرتبطة دوما بالدين كون حرية الأديان كانت غالبا مكفولة في الوطن العربي باستثناء شذوذ هنا وشذوذ هناك. غير أن هذه الهجرة تسارعت، منذ عقود، بحثا عن فرص عمل أفضل. ومع ذلك، فإن ما جرى مؤخرا، مرات معدودة، من أعمال قتل أعمى يستهدف المسيحيين في أكثر من بلد عربي، بات يثير القلق، الأمر الذي سيسرع في هجرة البعض مقابل الأمان في الدول الأوروبية. وحديثا، في هذا السياق، أورد أستاذ القانون الدولي الدكتور (حنا عيسى) أن “عدد المسيحيين في المنطقة العربية يصل ما بين 12 مليون إلى 15 مليون نسمة غالبيتهم تعيش في مصر، ويتوقع البعض أن يهبط الرقم إلى 6 ملايين بحلول عام 2020 نتيجة موجات الهجرة المتوالية للمسيحيين”. ويضيف عيسى: “والهجرة المتزايدة أسفرت عن مجموعة من النتائج السلبية على حياة المنطقة وبلدانها مثل التغييرات في البنية الحضارية والثقافية للمنطقة والتي كانت في الأساس منطقة تنوع ديني (مثلما أسفرت عن ضخ) مزيد من الكراهية على أسس مذهبية وعرقية وفقدان المنطقة جزءا من طاقاتها وقدراتها البشرية والمادية, وهي طاقات تحتاج إليها في عملية التنمية”.

لقد لعب المسيحيون دورا مهما في الحضارة العربية الاسلامية منذ القرن الأول الهجري، حتى ان ادارة الدواوين السلطانية كانت في أيديهم، وسمح الخلفاء والولاة لهم ببناء كنائس جديدة، فيما تزعموا حركة الترجمة من وإلى اللغة العربية. وقد سجل العالم اليوناني (ديمتري غوتاس): “ان حركة الترجمة في صدر الاسلام جاءت نتيجة حماسة علمية لدى المسيحيين الناطقين بالسريانية. كما كانوا يجيدون اليونانية والعربية واشتهرت مراكزهم” في عدة مناطق. وحتى اللحظة، ما زال مسيحيو الشرق يلعبون دورهم الكبير. فمنذ بدايات القرن العشرين، برز، وأحيانا تزعم، قادة مسيحيون حركات التحرر القومي العربي والحركة الفكرية والشعرية في بلاد الشام ومصر. ومؤخرا، خلص مؤتمر “السينودوس المسيحي” في روما إلى “دعوة المجتمع الدولي، وخصوصا الأمم المتحدة، للعمل على “وضع حد لاحتلال الأراضي الفلسطينية”، ثم أكدوا كذب الخرافة اليهودية بشأن “أرض الميعاد” حيث أعلن أسقف الكنيسة للروم الكاثوليك في الولايات المتحدة: “نحن المسيحيون لا يمكننا الحديث عن “أرض الميعاد” كحق حصري ومطلق (للشعب اليهودي).. فقد أبطل هذا الحق بمجيء المسيح”. كما أكد بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والإسكندرية وأورشليم أن أهمية ذلك المؤتمر تتجلى في كونه “يجعل المؤمنين المسيحيين يعون أكثر معنى وجودهم وشهادتهم وتاريخهم ودورهم في التاريخ في عمق الإسلام والعروبة وتاريخ المشرق العربي اليوم وأيضا غدا. كما أنهم يجعلون معنى وجودهم ورسالتهم أكثر وضوحا لإخوتهم المسلمين، ثم ثالثا يضعون هنا في روما وفي الفاتيكان، مسمع العالم كله سواء للغرب المسيحي ولأميركا ولكل مهتم، هذا الحضور والوجود في المجتمع العربي”. وفي رسالته التي وجهها في 18/6/2010 إلى الملوك والأمراء والرؤساء العرب، أوضح المطران (كيرل سليم بسطرس) ان السينودوس: “هو ليس لأجل أن نكون مع الغرب ولكن لكي نفهم أكثر معنى وجودنا مع الشرق مع إخوتنا العرب لأن مصيرهم مصيرنا”.

لكن ما الذي حدث؟!! يبدو أن الفتنة التي تستهدف الأمن القومي لبلدان عربية عدة أصبحت صناعة لها مخططون ومنفذون ناشطون داخليون وخارجيون، على رأسهم إسرائيل التي تواصل، منذ خمسينيات القرن الماضي، العمل على تفتيت الدول العربية إلى دويلات على أسس دينية وعرقية. بالمقابل، وبعد التأكيد على حقيقة خصوصية معاناة المسيحيين على أيدي “مسلمين”، فان التضييق على مسيحيي الشرق جزء من محنة المنطقة ككل. فالتطرف الإسلامي موجه ضد أبناء الإسلام أنفسهم، ومشكلة المسيحي العربي هي المشكلة نفسها للمواطن الآخر، والأمر حالة عامة ليست خاصة بطائفة أو فئة، وعلاجها شامل غير مجزء. وعليه، بات ضروريا نشر ثقافة التسامح والتعايش وقبول الآخر في ظل هذه الظروف الحساسة والحرجة التي تمر بها المنطقة لأنه، عبر هذه الثقافة فقط، تترسخ بقوة معالم الوحدة الوطنية التي ينبغي بناؤها على الثقة وبعيداً عن الهواجس وحسابات الربح والخسارة. لذا، ثمة حاجة لنشر ثقافة قبول الآخر واحترامه في بلدان العالم العربي. وهذا الأمر يتطلب جهدا جماعيا مشتركا ومنظما بين المسلمين والمسيحيين, مثلما يتطلب منهم العمل معا على أرض الواقع. ومن نافل القول أن هجرة المسيحيين من المنطقة تساهم في إفقار الهوية العربية وثقافتها وأصالتها، ولا بد من الحفاظ على الوجود المسيحي كضرورة إسلامية بقدر ما هو ضرورة مسيحية، وواجب إسلامي بقدر ما هو واجب مسيحي، مع ضرورة التأكيد على أن المتوجب على المسلمين (حكاما، شعوبا، دولا، ومؤسسات) أعمق وأشمل على قاعدة أن حقوق “الأقلية” على “الأغلبية” أسبق من حقوق الأغلبية على الأقلية. فجزء كبير من جوهر “الديمقراطية” لا يقف فقط عند حكم الأغلبية، بل يتصل بالقضية المركزية: كيف تصون هذه الأغلبية حقوق الأقلية. وهذه الخلاصة هي جوهر ما اتفق عليه فلاسفة كبار على رأسهم (جون لوك) و(جان جاك روسو) و(توماس جيفرسون)، حيث أكدوا على أن أهم مبدأين من مبادئ الديمقراطية الأساسية، هما: حكم الأغلبية، وحماية حقوق الأقلية، باعتبارهما عمادان متلازمان يرفعان بنيان الحكم الديمقراطي، ولا يمكن لهذا البنيان الصمود إلا عليهما معا. فهل تلتزم الأغلبية المسلمة بهذين المبدأين التزاما حقيقيا وكاملا؟