أحمد خليفة: السبّاق أحمد خليفة: سابقته … فسبقني أحمد خليفة: لا زلت تسبقني

مع مجموعة كبيرة من المتطوعين، وفي اليوم الثالث من حرب 1967، وصلنا – ونحن في طريقنا إلى فلسطين- إلى مشارف العاصمة الأردنية قادمين من بيروت (عبر دمشق حيث تزودنا بالأسلحة). غير أن هول اتضاح هزيمة الجيوش العربية في تلك الحرب (بعد سويعات من وصولنا إلى مشارف مدينة عمان) شطر – على ما يبدو- عقول بعضنا إلى نصفين: أولهما يائس، وثانيهما مصمم على استكمال خوض معركة تحرير فلسطين. ولأن خلايا عقلي تبنت الخيار الثاني، بادرت بالعودة سراً إلى بيروت (عبر دمشق) حيث التقيت الدكتور جورج حبش (“الحكيم” – كما كنا نسميه نحن أبناء “حركة القوميين العرب”) والذي كانت علاقتي الشخصية (وطبعا الرفاقية) معه قد توطدت تدريجيا منذ 1963. وما أن سألني “الحكيم”: “ماذا تنوي أن تفعل يا (أسعد) بعد هذه الهزيمة الفادحة”، اجبته: أمامي خياران: إما “الهجرة” إلى أستراليا (وكانت إعلانات الهجرة المتاحة إلى تلك القارة تملأ الفضاء العربي) أو “الهجرة المعاكسة” أي العودة إلى فلسطين التي باتت محتلة بالكامل فنباشر هناك مقاومة مسلحة. وبابتسامة عريضة، أعقبت إرخاء عضلات وجهه المتجهم منذ لقائنا، قال: هذا ما اقترحه صديقك (أحمد خليفة) حين زارني يوم أمس! (إثر وصوله من القاهرة). وبتلك المبادرة، سجل (أحمد) أول فوز له عليّ حين سبقني في الوصول إلى  “الحكيم” وفي اقتراح خيار المقاومة المسلحة.

************

بعد يومين، وإثر لقاء تم مع المناضل الاسطوري الدكتور وديع حداد (الذي زودنا بأسماء قياديين في “حركة القوميين” في الأردن للتعامل معهم حصرا) غادرنا – أحمد وأنا- بيروت إلى دمشق ثم – سراً – إلى العاصمة الأردنية التي اختفينا فيها عن الأنظار بعد أن كنا قد قطعنا “الحدود” السورية/الأردنية مشيا على الأقدام من درعا إلى الرمثا، ثم بواسطة نقل عمومية من درعا إلى عمان. وفي هذه الأخيرة، كان يقيم والدا (أحمد) اللذين اخترنا – في الأيام الأولى – عدم إعلامهما بوصولنا (ناهيك طبعاً عما نحن بصدده) وفي العاصمة الأردنية، أقمنا (اختبأنا) – أحمد وأنا – في غرفة على سطح عمارة في شارع (أحمد شوقي) في “جبل اللويبدة” كان قد منحنا إياها (لبضعة أيام) أحد العاملين في شركة والد (أحمد). ومع صباح اليوم التالي، باشرنا – سرا- اتصالاتنا مع من أوصى بهم الدكتور حداد (مصطفى زابري – أبا علي، وحمدي مطر – أبا سمير، وغسان قمحاوي – أبا          ، وأحمد محمود ابراهيم – أبا عيسى). ومع التئام الشمل، عقدنا عدة اجتماعات في العاصمة عمان (انضم إليها لاحقا الرفيق تيسير قبعة بعد أن وصل إليها بالطائرة من بيروت). وذات صباح، وفيما كنا ننفذ مجموعة من الترتيبات العسكرية والتنظيمية اتفقنا عليها في اجتماعات القيادة الجديدة، فوجئت برسالة تركها لي (أحمد) في غرفتنا السرية يعلمني فيها أنه غادر عمان إلى الضفة الغربية لمتابعة العمل مع قيادات أخرى في “حركة القوميين” هناك (أبرزهم زكريا أبوسنينة، اسحق المراغي، زهير صندوقة، ساجي سلامة، وعصام الخواجا). يومها، تمنى عليّ (أحمد) البقاء في عمان وإعلامه بما تسفر عنه اجتماعات مجموعتنا التي اخترنا لها اسم “القيادة الوسطى” الكامنة في العاصمة الأردنية، مؤكدا لنا التزامه، سلفا، بكل قراراتها. وهكذا، وللمرة الثانية، سبقني الغالي (أحمد) بمبادرته الدخول إلى فلسطين قبل نهاية تموز/يوليو 1967.

************

وبعد أن تمكنا، طوال الأشهر التالية، من “تهريب” عدد من الضباط والمقاتلين والأسلحة إلى داخل فلسطين، اتخذت “القيادة الوسطى” قرار المباشرة في الانتقال إلى فلسطين لتشكيل/ تعزيز “القيادة الأمامية” هناك وقد جاء هذا القرار بعد “رحلة” سرية مثيرة قمت بها (صحبة كل من الرفيقين حمدي مطر، وفايز جابر) لوضع “القيادة الخلفية” الثلاثية الأعلى المقيمة في دمشق (د. حبش، د. حداد، والمناضل “السوري الأصل” هاني الهندي) في أحدث التطورات الميدانية واستعداد التنظيم لمباشرة العمل الفدائي. وبالفعل، وقبيل منتصف كانون الأول/ديسمبر 1967، انتقل/ “تسلل” إلى فلسطين عضوان من “الوسطى” (جرى اختيارهما من غير المتزوجين أيامها) هما: تيسير والعبد الفقير لله. ولقد تم ذلك الانتقال/ “التسلل”، مع أسلحتنا ومشيا على الأقدام، حيث عبرنا نهر الأردن وهو في أعلى منسوب مائي له كوننا خضناه في فجر أحد الأشهر الأكثر مطرا وأشد برودة في ذلك العام. وبعد وقوعنا في أحد كمائن جيش الاحتلال الإسرائيلي وسقوط الشهيد “فارس” (دليلنا/ مرشدنا في عملية العبور) وصلنا إلى القدس مع الأيام الأولى من العام الجديد حيث “اختفينا تحت الأرض” كما يقال. بعدئذ، علمنا بنجاح سلطات الاحتلال باعتقال (أحمد) يوم 7/1/1968 ضمن تداعيات الإعلان عن تنفيذ عدة عمليات فدائية تواكبت مع انطلاقة “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” وهو الاسم الذي كانت قد اعتمدته القيادات آنفة الذكر (مضافا إليها في دمشق وعمان المناضلين أحمد جبريل عن “جبهة التحرير الفلسطينية” يومئذ، وصبحي التميمي وفايز جابر عن “منظمة أبطال العودة”، حيث تم انصهار هذين الفصيلين مع فصيل “شباب الثأر – حركة القوميين العرب” فأسسوا –معا- تلك “الجبهة”). ولاحقا، وبعد عدة اجتماعات عقدناها في منزل أحد كوادرنا (المناضل علي طه الذي استشهد وهو يقود عملية مطار اللد/ بن غوريون بتاريخ 9/5/1972) تعرضنا (تيسير وأنا واسحق مراغي) للاعتقال بعد اتضاح أمر أحد مخابئنا داخل “البلدة القديمة” في “زهرة المدائن”. وما هي إلا أيام حتى التقيت الغالي (أحمد) الذي كان قد سبقني، للمرة الثالثة، حين “وقع” أسيراً قبلي، فباشرنا “رفقة” مختلفة في سجن الرملة، وذلك في سياق رحلة كتبت علينا  سوياً (مع عدد من الرفاق) في السجون الإسرائيلية. 

*************

بعد “خروجنا” ثلاثتنا –تباعا- من سجون الاحتلال، اختار (تيسير) البقاء في الجبهة الشعبية، واخترت البقاء في منظمة التحرير الفلسطينية وفي التدريس الجامعي بعد حصولي على الدكتوراه من كندا، واختار (أحمد) التفرغ للعمل الثقافي الوطني في بيروت، بداية في “مركز الأبحاث الفلسطيني” 1970 (ثم لاحقا في “مؤسسة الدراسات الفلسطينية” 1973) مستفيداً من ملكة/ موهبة امتاز بها (تعلم اللغات) حيث أتقن العربية، والإنجليزية، ثم العبرية التي تعلمها في السجن الإسرائيلي. ورغم هذه “المسارات” المتنوعة، بقيت الصلات وثيقة بين الجميع، وبخاصة بين الرفاق المنتمين إلى “حركة القوميين العرب”. كذلك، تعمّقت العلاقات السياسية والاجتماعية، ولو بتفاوت، بين من استمروا في حقول العمل الفدائي/ السياسي (طبعا باستثناء من اختطفهم الاستشهاد/الموت مبكرا: د. وديع حداد، غسان قمحاوي، فايز جابر، ومحمود ابراهيم). وفي ظني أن طبيعة عمل (أحمد) في بيروت، وبخاصة بعد “خروج المقاومة” من العاصمة اللبنانية في 1982، باعدت –تلقائيا وطبيعيا- بينه وبين رفاق الأمس. غير أن لقاءاتنا (هو وأنا) استمرت، سواء في بيروت أو في أكسفورد أو في عمان. ومما لا شك فيه أن أنشطتي الأكاديمية والثقافية الفلسطينية والعربية (حيث عملت –تباعا- في “جامعة الكويت” و”هيئة الموسوعة الفلسطينية” و”مؤسسة عبدالحميد شومان”) قد عززت تقاطع دربينا. ومعلوم أن “تباعد” طريق (أحمد) مع الرفاق الآخرين قد تزايد عقب انتقال هؤلاء إلى فلسطين بعد تفاهمات أوسلو 1993: (أبا علي مصطفى) الذي دخلها بعد أن أصبح الأمين العام للجبهة الشعبية بعد استقالة “الحكيم”، مثلما دخلها (حمدي مطر)، و(صبحي التميمي)، والعبد الفقير لله. وفي هذا السياق، وبشكل كبسولي (حيث الإفاضة في الشرح ستكون في “مذكراتي” القادمة) أسجّل أن الغالي (أحمد) قد سبقني مرة رابعة – أنا شخصيا وليس بالضرورة أحدا غيري – في ثباته الحازم والتزامه الراسخ بمبادئ “حركة القوميين العرب” فلسطينيا (وعربيا) مع النأي بنفسه عن العمل السياسي من خلال “منظمة التحرير الفلسطينية” أو أي من فصائلها … كما فعلنا نحن الذين جمعتنا معه في العام 1967 وشائج الرفاقية في “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”.

***********

    إذ أرثيك اليوم – يا أيها الأخ والصديق الأثير (أحمد) – فلأنك “آخر” الأشاوس الذين ضمتنا -معا- القيادتان “الخلفية” و”الوسطى” في “الجبهة الشعبية”، يوم كان كل واحد منا يسابق الآخرين إلى شرف الاستشهاد!  وإذا كان هؤلاء الرفاق قد سبقونا (أنت وأنا) إلى الارتقاء ورحلوا، ها أنت “تبادر”، للمرة الخامسة، وتسبقني إلى العالم الآخر! فطوبى لك يوم ولدت، ويوم غادرت، لكن ذكراك ستبقى في عقلي ووجداني: إنسانا أصيلا، ومثقفا ملتزما، وصديقا صدوقا تتقبل الاختلاف بل وتلتمس لرفاقك ولأصدقائك الأعذار إن هم أخطأوا، وتصون الصلة معهم وفق القاعدة الرائدة والرائعة للإمام الشافعي: “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”! ولأنك “أنت من أنت”: صاحب الخلق الرفيق والقلب الواسع الكبير والصدر الواسع الرحيب، استمرت صداقتنا عميقة حتى يوم رحيلك، ودامت لك محبة واحترام كل الأصدقاء – كل الأصدقاء حقا – وفي كل الأوقات! يا أيها الإنسان النادر!