حرب باردة بثلاثة رؤوس؟

بعد “هدنة إجبارية” بدأت بسقوط الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية منذ ثلاثة عقود انتهت بإعلان انتهاء الحرب الباردة، يبدو العالم اليوم على موعد جديد مع حرب باردة جديدة في ظل التغيرات التي تعصف بالعالم. ويأتي السباق المسعور بين المعسكر الغربي المتمثل في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية من جهة، وروسيا الاتحادية والصين منفردتين ومجتمعتين من جهة ثانية، في سياق مغاير لما أعلن عنه خبير العلوم السياسية الأمريكي الشهير (فرنسيس فوكوياما) بالانتصار النهائي للديموقراطية الليبرالية باعتبارها شكل الحكم الوحيد في المستقبل والتي لن تتمكن أي أيديولوجيا أخرى من تحديها.. وكان (فوكوياما) قد وصف الحال بأنه “نهاية التاريخ”، رغم أن الندية كانت خلال تلك الفترة، حاضرة بين القوتين العظميين من خلال التحالفات العسكرية، والدعاية، وتطوير الأسلحة، والتقدم الصناعي، والإنفاق الكبير على الدفاع العسكري، والترسانات النووية، وحروب غير مباشرة باستخدام وسطاء، وتطوير التكنولوجيا والتسابق الفضائي.

عديد المحللين السياسيين يرون أن بدايات الحرب الباردة الجديدة/ الثانية تعود إلى العام 2013 الذي شهد تطورات خطيرة في أزمة أوكرانيا. وفي هذا السياق، يحيلنا بعض المراقبين إلى نيسان/ إبريل 2018، حين أعلن (أنطونيو غوتيريس) الأمين العام للأمم المتحدة خلال اجتماع في مجلس الأمن قائلا بصراحة: “عادت الحرب الباردة بسبب الرغبة في الانتقام.. يجب العثور على آليات جديدة لتجنب تصعيد المواجهة بين روسيا والولايات المتحدة”. ومنذ تلك الأيام، تتصاعد الأحداث بين فترة وأخرى وتتوالى الاتهامات بين الطرفين الأهم/ الأخطر في المعادلة: الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية، ربما كانت آخرها المشاكسات بين رئيسي الدولتين الرئيس الأمريكي (جو بايدن) والروسي (فلاديمير بوتين) حينما اتهم كلاهما الآخر بأنه “قاتل”، وبذلك حدد الرئيس (بايدن) العدو الرئيسي للولايات المتحدة من جديد، وهو الخصم الموجود في العمق القاري لأوراسيا، وذلك بعد أن كان الرئيس السابق (دونالد ترامب) قد اتخذ من الصين عدوا رئيسيا له التي رآها تخوض معركة شاملة لفرض نظام عالمي جديد بقيادتها. لكن الأمر لا يبدو في نظري بهذه البساطة، فكأني بالحرب الباردة الجديدة بثلاثة رؤوس وليس برأسين كما الأولى، أمريكا رأس وروسيا رأس والصين رأس.

لقد أعلن (بايدن) عن نيته تأسيس “حلف الديمقراطيات”. وبعد بضعة أيام ردت بكين وموسكو ببيان مشترك ضد العقوبات و”التدخل الأمريكي في شؤونهما”. وكانت الخطوة التالية للصين توقيع اتفاق اقتصادي شامل ذي تداعيات عسكرية محتملة مع ايران، جعلها عمليا جزءا من التجمع الصيني – الروسي. بل إن الصين تجهد – ولو بحذر شديد – لتعزيز علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية مع دول حريصة على علاقاتها مع واشنطن لكنها تلهث وراء بكين والمكاسب الاقتصادية. في هذا الوقت، دخلت أوروبا على خط الأزمة، ليس فقط لنصرة حليفها الرئيسي الولايات المتحدة، ولكن أيضاً لاعتبارات تاريخية تخصها نتيجةً عقود من العداء لروسيا (وريثة الاتحاد السوفيتي) الذي كان في يوم ما متحكما في نصف أوروبا (أوربا الشرقية)، لاسيما بعد انضمام دول أوروبا الشرقية للاتحاد الأوربي. من هنا، ليس من المستغرب هذه الحالة من المناكفة الدبلوماسية المتمثلة في طرد الدبلوماسيين المتبادل بين الجانبين، وآخرها ما بين جمهورية التشيك ودول البلطيق الثلاث: لاتفيا، واستونيا، وليتوانيا من جانب، وروسيا من جانب آخر، إضافةً إلى الصراع الساخن بين روسيا، وأوكرانيا. ومعلوم أن تهديد حلف الناتو بدعم أوكرانيا إذا حدثت مواجهة مع الروس، قابلته روسيا بتهديد مباشر للحلف بدفع ثمن أي تحرك من هذا النوع. هذا، مع التذكير بأن عودة الحرب الباردة تعني العودة لاستخدام “الوسطاء” الذين عادة ما يدفعون الفاتورة الأكبر لصراعات الولايات المتحدة وروسيا اللتين لن تدخلا في مواجهة مباشرة تحت أي ظرف من الظروف.