موقع أوكرانيا في الصراع الأمريكي الروسي

منذ تأسيس الاتحاد السوفييتي في العام 1922 وحتى تفكّكه في عام 1991، كانت أوكرانيا ثاني أهم جمهورية في المنظومة السوفييتية. فالصورة عن هاتين الجمهوريتين كانتا كما كان يقال “أوكرانيا تصنع صورة روسيا كقوة عظمى وروسيا من دون أوكرانيا مجرد بلد، بينما روسيا مع أوكرانيا إمبراطورية”. غير أنه مع انهيار الاتحاد السوفييتي، واستقلال الجمهوريات التي كانت تدور في فلكه، اقتربت أوكرانيا كثيرا من حلف الأطلسي في الفترة التي كانت تعاني فيها “روسيا الاتحادية”، وريثة “الاتحاد السوفييتي”، من أوضاع اقتصادية صعبة، حتى جاء (فلاديمير بوتين) كرئيس للوزراء أولا ورئيسا للدولة لاحقا، وبدأ بإعادة تموضع روسيا الاتحادية مجددا على الخارطة العالمية.

في العام 2014، خرجت مسيرات ومظاهرات في المدن الأوكرانية طالبت بعزل الرئيس (فيكتور يانوكوفيتش) الموالي لموسكو فقام الجنود الروس بالسيطرة على مواقع استراتيجية وحيوية في شبه جزيرة القرم، التي ضمتها روسيا تحت سيادتها في آذار/ مارس من نفس العام 2014، بعد الاستفتاء في القرم، حيث صوتَ سكّان القرم لصالح الإنضمام لروسيا الاتحادية، بحسب النتائج الرسمية. وفي تلك الأيام، تصاعدت مظاهرات مؤيدة لروسيا من قبل جماعات انفصالية في منطقة دونباس، مما أدى إلى حدوث صراع مسلح بين الحكومة الأوكرانية والجماعات الانفصالية المدعومة من روسيا.

واليوم، تتزايد المخاوف من عودة مشابهة لأحداث 2014، خاصة وأن أوكرانيا بلد متعدد الإثنيات والأعراق والأديان واللغات، وهي بلد منقسم بين شرق يتكلم سكانه الروسية ويرون في روسيا بلدهم الأم، وبين غرب يتكلم اللغة الأوكرانية ويدعو إلى الإنضمام لأوروبا. لذا، فالإنقسام هو في الأصل ليس سياسيا فحسب بل وثقافي اقتصادي يترسخ في أزمة هوية يعيشها البلد.

تعتبر أوكرانيا خاصرة روسيا الرخوة، وهي تمثل أهمية سياسية بالغة لروسيا، فعبرها تمر أنابيب الغاز إلى أوروبا، وتعزز من حضور أسطولها في البحرين الأسود والأبيض المتوسط. كما أن روسيا تستفيد بشكل كبير من موارد أوكرانيا الاقتصادية، حيث 80% من الصادرات الأوكرانية تذهب إلى روسيا وعبر روسيا نحو الشرق. فضلا عن أن حلف الأطلسي يسعى لتوسيع رقعته الجغرافية، بحيث تكون أقرب الى روسيا. في هذا السياق، يمكن فهم سبب عدم سماح روسيا للغرب بالاستحواذ على أوكرانيا، والعمل على إفشال وصول أي حكومة أوكرانية موالية للغرب.

المواقف الأوروبية المهاجمة لروسيا في الموضوع الأوكراني كانت أحيانا “أقوى” من الموقف الأمريكي، رغم المصالح الروسية الأوروبية المشتركة وعلى رأسها مشروع “السيل الشمالي 2” بين روسيا وألمانيا، الذي يتيح تزويد الأخيرة وعدد من الدول الأوروبية الأخرى مباشرة بالغاز الروسي، وقناعة فرنسا وألمانيا بضرورة تعميق العلاقات مع روسيا لاجتذابها إلى أوروبا وإبعادها عن الصين. وفي هذا السياق، لا خلاف، على أنه ومنذ وصول (جو بايدن) للبيت الأبيض، بدأت واشنطن تستخدم لغة عدائية متزايدة ضد موسكو مع إصرار الأولى على دعوة الأوروبيين إلى وضع حد للنفوذ الروسي والتخطيط لتطويقه داخل مناطق نفوذه التاريخية، خاصة مع اعتماد (بايدن) سياسة رفع درجة التوتر مع روسيا لإخافة الأوروبيين، ودفعهم للعودة طواعية للتمسُّك بالحماية الأمريكية.

بعض المراقبين يقولون إن الوضع يشي بمنعطف خطير في مسار العلاقات الروسية – الأمريكية، المتدهورة أصلا في السنوات الماضية، والبعض الآخر يقول أنها عملية “عض أصابع” هدفها – في نهاية المطاف – فتح حوار استراتيجي بين الدولتين العملاقتين الأساس فيه الموقف الأمريكي الساعي لتحييد روسيا في مقابل المواجهة الأكبر: الصين.