فرنسا: حرية تعبير… انتقائية؟!

حرية التعبير جزء أساسي لا يتجزأ من الديمقراطية، وركيزة من ركائز المجتمع الديمقراطي الصحي، تسهم في تحقيق النمو الاجتماعي والاقتصادي المتكامل، متواكبة مع تطبيق حقوق حرية التعبير. وما يهم في هذه المسألة أن حق حرية التعبير يجب أن يشمل الآراء الموضوعية التي قد تكون مزعجة أو حتى صادمة طالما أن الهدف هو خير المجتمع من أفراد وجماعات.

في فرنسا، يشدد الرئيس (إيمانويل ماكرون) دائما على أن بلاده لا سقف فيها لحرية التعبير، وأنه سوف يدافع باستمرار عن “حرية الكتابة والتفكير والرسم”، وهذا بحد ذاته موقف مبدئي يكسب (ماكرون) التعاطف خاصة بعد العمليات الإرهابية الأخيرة التي وقعت في فرنسا. لكن الواضح أن فرنسا تعيش فكرين متعاكسين. ففي مقابل تصريحات الرئيس ووزير داخليته عن الالتزام بالحريات، تطفو على السطح أحيانا مشاريع قوانين تؤكد، بحسب بيان منظمة العفو الدولية” أن: “سجل فرنسا في حرية التعبير في مجالات أخرى قاتم بنفس القدر، ففي كل عام يُدان آلاف الأشخاص بتُهمة “ازدراء الموظفين العموميين”، وهي جريمة جنائية مُعرَّفة بشكل غامض وطبقتها سلطات إنفاذ القانون والسلطات القضائية بأعداد هائلة لإسكات المعارضة السلمية”. أيضا، في منتصف الشهر الماضي، ناقش البرلمان الفرنسي قانونا يُجرم تداول صور المسؤولين الفرنسيين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك بعدما أدانت محكمة فرنسية رجلين بتهمة “الازدراء” بعد أن أحرقا دمية تمثّل (ماكرون) خلال مسيرة سلمية.

أما اليوم، فتتواصل الاشتباكات بين المتظاهرين الفرنسيين والشرطة في جميع أنحاء البلاد ومن ضمنها العاصمة باريس ضد مشروع قانون “الأمن الشامل” المثير للجدل الذي يضع قيودا على نشر صور تظهر فيها وجوه رجال الشرطة. ويرى معارضون أنه مشروع يعزز إفلات مرتكبي العنف من أفراد الشرطة من العقاب وإزالة مصدر أدلة مهم أثناء ارتكابهم للقمع ويقوض حرية الصحافة في توثيق أعمال الشرطة، وذلك بعد ظهور لقطات فيديو لثلاثة من رجال الشرطة البيض يعاملون منتجا موسيقيا أسود بشكل عنصري ويضربونه، فيما تراه الحكومة “مشروعا لقانون لا يعرض للخطر حقوق وسائل الإعلام والمواطنين العاديين في الإبلاغ عن انتهاكات الشرطة – ويهدف فقط إلى توفير الحماية لضباط الشرطة”. وللعلم، فإن المادة 24 من المشروع، تجرم نشر صور لضباط الشرطة أثناء الخدمة، وقد يواجه الفاعل السجن لمدة عام وغرامة قدرها 45 ألف يورو (53840 دولارا). وتضغط نقابة الشرطة الفرنسية بشدة ومنذ زمن على الحكومة وأعضاء البرلمان، لاعتماد قانون يحميها من الصور والفيديوهات، التي تصفها بـ”المسيئة” لها أثناء الخدمة، والتي يتداولها ناشطون عبر شبكات التواصل الاجتماعي، خصوصا خلال احتجاجات السترات الصفراء بين عامي 2018-2019.

من جانبه، نشر موقع “ميدل إيست آي” البريطاني تقريرا للكاتب والصحفي (بيتر أوبورن) سلط فيه الضوء على إسكات أصوات معارضة للرئيس (ماكرون) الذي يصدر نفسه “بطلا للدفاع عن حرية التعبير”. وفي التفاصيل، كتب أستاذ علم الاجتماع المتقاعد في كلية الدراسات المتقدمة في العلوم الاجتماعية في باريس (فرهاد خوسروخفار) مقالا أزاله “بوليتيكو يوروب” من موقعه بعد ضغوط من قصر الأليزيه، بحسب مراقبين، تسائل فيه: “لماذا تعاني فرنسا أكثر من غيرها من جيرانها الأوروبيين من هجمات المتعاطفين مع الجهاديين؟ السبب يكمن في نمط العلمانية المتطرف الذي تعتنقه فرنسا، وارتباطه الوثيق بالكفر، الأمر الذي يغذي التطرف داخل الأقلية المهمشة”. بعد ذلك بأيام قليلة، نشرت “الفاينانشال تايمز” على موقعها مقالا بعنوان “حرب ماكرون على الانفصالية الإسلاموية يزيد من الانقسام داخل فرنسا” بقلم مراسلتها في بروكسيل (مهرين خان)، اتهمت فيه “حكومة ماكرون باختيار إذكاء الهلع المعنوي حول الإسلام والمسلمين، واختيار ماكرون استراتيجية تخدم اليمين المتطرف وطموحاته الانتخابية”.

الرئيس (ماكرون) الذي اضطر إلى سحب المشروع تحت وطأة الاحتجاجات، كان نعت المتظاهرين “بالمجانين” مع أن جريمتهم كانت في وقفتهم الحرة ضد مشروع قانون يحد من حرية التعبير والصحافة. وفي السياق نتذكر مفارقة أن (ماكرون) نفسه يدافع بشراسة عن حق صحيفة “شارلي إيبدو” في نشر صور كاريكاتيرية مسيئة للنبي محمد!!!