د. حاتم الشريف: مقيم فينا.. والحزن فينا مقيم

منذ أن ضربتني صاعقة خبر رحيلك، تحجرت منابع الدمع في عيني، فاستغربت، وقبلي استغربت زوجتي وبعض العاملين معي من الذين التقيتهم ذلك الصباح المشؤوم، من حالة الاستعصاء تلك على غير ما هو معهود عني! ففي كل مرة يرحل فيها غال من الأقربين مثلك يا أيها الحبيب «حاتم»، تجود تلك المنابع بما تبقى فيها من دموع بعد أن تم سكب معظم المخزون فيها على أحبة رحلوا قبلك. ولم ينقذ عيني من أذى انحباس الدمع سوى سماعي لصوت شقيقك/شقيقي «مازن»!(ففور التقاء صوتينا على موجات الأثير، باشر «مازن» بكرمه المعتاد واللامحدود بتعزيتي أنا بدلاً من العكس فانهمرت دموعي مدراراً على نحو خنق صوتي فانتهت تلك المكالمة دون معرفة «تفاصيل» الفاجعة وتداعياتها، الأمر الذي جعلني أجدد الاتصال مع «مازن» بعد ساعة بدت وكأنها الدهر باكم! وجاء في «التفاصيل»، ضمن ما جاء، مكان وزمان اللقاء في المقبرة!

***
تمت «عملية الدفن» على وقع انهمار دموع إضافية لا أعرف والله من أين جاءت، لكنها امتزجت مع رذاذ المطر الخفيف الذي سبق تلك «العملية» وأعقبها! ورغم «الربو» الذي أعاني منه وتضاده مع استنشاق أي نوع من الغبار، فإن ما ذرته معاول مهيلي التراب، وصل–مبللاً بقطرات المطر- إلى فتحتي أنفي، وعبرهما، نزلت تلك الذرات برداً وسلاماً على رئتي ويا للعجب! لكنني سرعان ما تجاوزت «العجب» حين أدركت أنها ذرات تراب مبارك غطى القبر الذي احتضن جسدك بعد أن كان قد تبارك بروحك الصاعدة حثيثاً إلى باريها. ويا لرائحة ذلك التراب المبلل بقطرات المطر الخفيف الذي أصر على وداعك.. وإنها – والله – لرائحة ولا أشهى!

***

قبل ساعات من رحيلك، كنت قد وعدتني في آخر مكالمة هاتفية بيننا بلقاء قريب بعد أن تعافيت وعزمت على مغادرة المستشفى في اليوم التالي! فكيف أخلفت – يا حبيبي «أبا فتحي»- وعدك هذه المرة، وأنت، على مدار سنوات طوال، لم تخلف– معي أو مع غيري فيما أعلم – وعدا؟ لكن زائرك هذه المرة كان «ملاك الموت» الذي طالما تحدثنا عنه مستخلصين أنه يستمد قوته من قوة الجبار الذي لا يقهر، فذلك «الملاك» وحده «وحده فقط» الذي يحفظ كل الوعود ويصون كل المواعيد، فحين تأتي الساعة.. فإنها تأتي بحسم قهار دون أن يكون بمقدور أي إنسان ردها..!

***
ومع اعترافنا بأن «الموت حق»، فإن حقك علينا أن نعترف بأن في رحيلك خسارة.. وأي خسارة! وكيف لا يكون في غيابك) يا «حاتم حاضرنا» (خسارة.. تضاهي خسارة غياب) «حاتم التاريخ»؟! ومع رحيلك عن دنيانا، كيف لا يكون في تلاشي مخازن ما تحليت به من الأدب الجم، هذه البضاعة النادرة هذه الأيام خسارة، وأنت الطبيب النفساني البارع، الذي طالما عالج جراحنا، واستئصل من نفوسنا تعقيداتنا، فكيف يمكن لنا ألا نستشعر–برحيلك الصاعق- الخسارة وعقدها. ثم، وأنت «الموسوعة التي تمشي على قدمين» كما كنت –دوماً- أسميك كيف لنا ونحن نستذكر علمك، وتنقيبك الدؤوب عن حقيقة الأشياء، وبالتالي تراكم معلوماتك الواسعة، وثقافتك الراقية والعميقة، كيف لنا ألا نقول: يا للخسارة !

***
كاد ما تبقى من قلبي – يا توأم الروح – أن يغادرني لولا أنه اختار أن يبقى معي رفقاً وحناناً منه علي وعلى والدتك/ والدتي (المكلومة) الحاجة قدسية (التي يذكرني حالها اليوم بحال والدتي مع شقيقتي الأثيرة) جمانة (يوم رحلت عنا مثلك وعلى نحو مفاجئ).

حال القلب المفطور والذهول السرمدي على سنوات ما تبقى من العمر! ويا للمفارقة: أنه لربما من «محاسن الصدف”! (أن تحول جائحة كورونا بيني وبين لقائكم: يا والدتي) قدسية (ويا شقيقي) كابتن أسامة (ويا شقيقتاي) ليلى وخديجة (ويا) نادرين (الغالية التي اختارها توأم روحي) حاتم (زوجة حبيبة له، ويا أبنائهما/ أب نائي الأعزاء) فتحي ونورا وميرنا (وإذ أقول أن من «محاسن صدف» الجائحة كونها حالت بيننا وبين اللقاء المباشر، فلأنني – يشهد الله – لا أجرؤ على لقائكم، لا وليس بمقدوري تحمل التقاء عيوننا بعضها ببعض، ونحن لم نزل في حضرة وحش «الموت الطازج» الذي اختطف قطعة من قلبي اسمها «أبا فتحي”! وبانتظار لقاء يجمعنا ولا أظنه بعيداً (يا حبيب القلب) حاتم فإن صقيع عذابنا برحيلك، وذكرياتنا الدافئة بك وعنك، كلها مقيمة فينا.. ومعها أيضاً الحزن المقيم!