تحولات السياسة التركية داخليا وخارجيا

لأن تركيا تُعد من الفاعلين في منطقة الشرق الأوسط، فإن لسياساتها الخارجية تجاه الإقليم ودوله ومن بينها الدول العربية تأثيرا على هذه الدول وعلى مجمل الأوضاع الإقليمية. وقبل مطلع الألفية الثانية، غلَب على السياسة الخارجية التركية التماهي مع السياسات الغربية تجاه الإقليم بهدف الانضمام للاتحاد الأوروبي، مع إغفال منها للعمق العربي والإسلامي ودورها الإقليمي. غير أن هذه السياسة شهدت منذ حكم “حزب العدالة والتنمية” عام 2002 تحولات استراتيجية أعادت تعريف مبادئها الأساسية، وصاغت دورا جديدا ومؤثرا لتركيا في الإقليم والعالم.

في المجمل، لا موقف سياسيا أو أيديولوجيا للعرب، وبالذات للمثقفين العرب، من أي دولة عربية أو أجنبية إلا بمقدار بعدها أو قربها من القضايا العربية وفي الطليعة منها القضية الفلسطينية – البوصلة الحقيقية التي تحدد المواقف. بل لقد كان هناك إعجاب في السياسة الخارجية التركية يوم كانت تركيا تنتهج سياسة “أعداء صفر” باعتبار أنه ليس مطلوبا من تركيا أن “تقود” الإقليم، وخاصة العربي والإسلامي، على كتفيها.

ولقد جاء تغير الحال نتيجة التحولات في نظام الحكم. ففي السياسة الداخلية التركية الجديدة، بانت بوضوح الرغبات الشخصية للقيادة بالتحول نحو النظام الفردي ممثلة بشخص (رجب طيب أردوغان)، حيث حدثت صيرورات داخلية في النظام نسفت السياسة الخارجية السابقة (صفر أعداء) وأدت إلى نشوء الزعامة الفردية السلطانية النزعات! ورغم الرهان المسبق على التجربة الديموقراطية التركية لأن إطارها كان الإسلام، إلا انها تحولت إلى إحدى تلك النظم السياسية المستبدة التي خبرناها في عديد النظم الإسلامية والعربية. فقد كان الرهان أن تكون تركيا شبيهة مثلا بماليزيا وإذا بها تعود وتنجر إلى تآكل القيادة الجماعية فأصبح رفاق الأمس خصوما وربما أعداء. (فعبد الله غول) زعيم المجموعة التي تمرّدت على (نجم الدين أربكان) في المؤتمر العام لحزب الفضيلة الإسلامي 14 أيار/ مايو 2000 ليصبح بعد ذلك من أهم مؤسّسي حزب العدالة والتنمية عام 2001 عندما كان (أردوغان) في السجن، أصبح خصما (إن لم يكن عدوا سياسيا) لأردوغان. وكذلك الحال مع (أحمد داود أوغلو) الذي أصبح رئيسا للوزراء بعد أن انتخب أردوغان رئيساً للجمهورية في آب/ أغسطس 2014.  وكل ذلك بعد أن أصبح (أردوغان) رئيساً للجمهورية وفق الدستور الجديد الذي منحه كل الصلاحيات ليصبح الحاكِم المُطلَق للبلاد، وبالذات بعد أن سيطر شخصياً على الجيش والأمن والمخابرات والقضاء. وها هي “تركيا اليوم” تعيش مرحلة حكم الفرد، الأمر الذي ترك بصماته على مجمل السياستين الداخلية والخارجية.

تجلى “الجديد” في السياسة الخارجية التركية بقوة النزعة السلطانية المتنامية ودخولها، بالتالي، على الملفات الإقليمية الساخنة، وبالذات ملف “ثورات الربيع العربي”، وتعزيز علاقاتها مع تيار “الإسلام السياسي” الذي اشتد عوده مع هذه “الثورات”، وإصرار تركيا على سياساتها “الاقتحامية”(كما يقال لنا!!!) في كل من سوريا والعراق ودول الخليج وليبيا، وفي الخلافات المتصاعدة مع منظومة الاتحاد الأوروبي وبالذات في الأشهر القليلة الماضية. رغم اختلاف التوجهات عربيا ودوليا. أضف إلى ذلك، انشغال تركيا بمواجهة العديد من التحديات الداخلية الأمنية، خاصة بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في تموز/ يوليو 2016، مع تنامي النفوذ الروسي في محيطها، وتمدد النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط عسكرياً وسياسيا. وفي ظل هكذا أوضاع، غلبت على الخطاب السياسي التركي سياسة ردود الأفعال العاطفية عوضاً عن الحسابات السياسية الدقيقة والتعاطي الهادئ وهو أمر ما زال متفاقما حتى اليوم. وتزايدت المفارقات في السياسة الخارجية التركية، تباعا، ومعها التأرجح بين بدايات المواقف ونهاياتها، وبين المواقف الفعلية وتلك المطربة للاسماع، والحال مع قضية فلسطين خير مثال.