تحديات في وجه الاتحاد الأوروبي: هل يصمد؟

على مر تاريخ القارة الأوروبية تكررت محاولات توحيد أممها. ولعل أبرز هذه المحاولات تأسيس “الاتحاد الأوروبي” بناء على اتفاقية “معاهدة ماستريخت” الموقعة عام 1992، وأهم مبادئه نقل صلاحيات الدول القومية إلى المؤسسات الدولية الأوروبية. إنه أساسا، اتحاد سياسي اقتصادي يضم حاليا 27 دولة ويعتبر من أكبر وأهم التكتلات في العالم. وفي 2012، حصل “الاتحاد الأوروبي” على جائزة نوبل للسلام لمساهمته في تعزيز السلام والمصالحة والديمقراطية وحقوق الإنسان في أوروبا.

لقد مر “الاتحاد الأوروبي” بعديد الأزمات، أولها وأخطرها الأزمة المالية التي عرفها العالم في العام 2008، حين فاقت نسبة المديونية نسبة معدل الناتج الوطني في بعض الدول مما أدى إلى عجز كبير في تسديد الديون، والتي عرفت بأزمة الديون السيادية. لكن، في 23 حزيران/ يونيو 2016، واجه “الاتحاد” أول تحد لوجوده، حين قررت المملكة المتحدة، عبر استفتاء، الخروج من “الاتحاد”. وقد تحقق ذلك رسميا في 31 كانون ثاني/ يناير 2020 وهو الأمر الذي أثار تساؤلات كبرى حول مستقبل “الاتحاد”.

نتيجة الاستفتاء البريطاني قادت إلى الحديث عن مخاوف حقيقية قد تؤدي إلى تفكك “الاتحاد الأوروبي”. فنجاح بريطانيا وانفصالها عنه يحفز النزعة الانفصالية لعدة دول تراودها فكرة الانسحاب. وهذا كان متوقعا مع صعود الأحزاب الشعبوية في أوروبا الذي شكل خطرا آخر يضعف “الاتحاد” وربما يضعه على طريق التفكك. فالأحزاب الشعبوية في أوروبا، لم تعد مجرد ظاهرة عابرة بل تحولت إلى قوة ترتكز على الاختلاف في التعاطي مع مفهوم القومية بمفهومها الأوروبي الشامل لصالح القومية في معناها الأضيق المرتبط بجغرافية الدولة وخصوصيتها.

كذلك، يواجه “الاتحاد” خلافات حادة بين غرب وشرق أوروبا حول ملف الهجرة وهو الملف الذي عمّق الانقسامات بين الدول الأعضاء. وقد كان دور الأحزاب الشعبوية فيما يخص سياسة الهجرة في أوروبا واضحا وملموسا، حيث ما زال هذا الملف موضع خلاف كبير في تلك الدول التي تتنامى فيها قوة الأحزاب الشعبوية، الساعية دون الوصول إلى اتفاق رسمي. وقد زرعت أزمة المهاجرين واللاجئين اختلافا كبيرا بين الدول الأعضاء بين محايد ومعارض لاستقبال اللاجئين والذي سبب تزايدا ملحوظا في نسبة البطالة عند الدول المستقبلة.

ومن ضمن قائمة التحديات التي تواجه “الاتحاد الأوروبي” التعامل مع تركيا، التي تصر على “أوروبيتها” وتطالب بالانضمام للاتحاد ومساواتها مع كافة دوله، لكن الخلافات جد كبيرة. وقد عبر قادة دول “الاتحاد” في القمة الأوروبية الأخيرة منتصف الشهر الجاري عن أسفهم لتصرفات تركيا “الأحادية الجانب” في شرق البحر المتوسط، لكنهم لم يغيروا الإستراتيجية المتفق عليها في القمة السابقة التي تمهلت في دراسة عقوبات محتملة. وكان هؤلاء الزعماء قد اتفقوا خلال قمة الثاني من تشرين أول/ أكتوبر الجاري على إمهال تركيا حتى أوائل كانون أول/ ديسمبر المقبل قبل النظر في مسألة فرض العقوبات الاقتصادية.

وفي زحمة أزمات “الاتحاد”، جاءت جائحة كورونا لتخلط الأوراق. فالقارة الأوروبية تواجه اليوم أعنف صدمة اقتصادية لها منذ الحرب العالمية الثانية أدت لنشوب خلافات في “الاتحاد” بشأن صندوق إنعاش مقترح قيمته 750 مليار يورو (856 مليار دولار) وميزانية الاتحاد الأوروبي التي تزيد عن تريليون يورو للفترة من 2021 إلى 2027. ففي السياق، عرقلت مجموعة من الدول الشمالية الثرية (هولندا والنمسا والدنمارك والسويد) تحقيق تقدم في أول اجتماع يعقده زعماء دول الاتحاد الأوروبي وجهاً لوجه منذ تدابير العزل العام التي فرضت عبر القارة في الربيع الماضي. وتفضل هذه الدول تقديم قروض قابلة للرد بدلا من إعطاء منح مجانية للاقتصادات المدينة التي تضررت بشدة من كورونا ومعظمها من الدول المطلة على البحر المتوسط وتريد فرض رقابة أكثر صرامة على كيفية انفاق هذه الأموال. فهل يشهد عالم ما بعد كورونا تفككا، ولو جزئيا، للاتحاد الأوروبي؟!!