التوتر في “شرق المتوسط” وموازين القوى المنتصرة
لا يمكن قراءة تطورات المشهد السياسي في أي منطقة دون البحث في مواقف القوى الإقليمية والدولية الفاعلة فيها. وبما أن العقد الأخير شهد تحولات إقليمية كبرى في عديد مناطق العالم، فقد ساهمت القوى العظمى في صياغة مشهد هذه التحولات في هذه المناطق. بل إن تطورات المشهد الدولي خلال السنوات القليلة الماضية توحي بأن تحولا كبيرا يجري الآن في ميزان القوى الدولي سيفرز نظاما دوليا متعدد القطبية أي تفاقم الصراعات الدولية الجارية واندلاع صراعات جديدة قادمة تزيد من تعقيدات العالم المضطرب أصلا، خاصة مع تراجع الهيمنة الغربية الأوروبية الأمريكية، التي ترسخت بعد الحربين العالميتين، أمام نفوذ قوى غير غربية كالصين وروسيا وإيران وتركيا والهند وجنوب إفريقيا.
يتصاعد التوتر في الأسابيع الأخيرة بين اليونان وتركيا في مياه شرقي البحر المتوسط، إذ واصلت تركيا جهود استكشاف للغاز ومددت آجال عمل سفن التنقيب بالمنطقة والتي صاحبها سفنا حربية من البحرية التركية لحمايتها. بالمقابل، لوح الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات ضد تركيا بسبب التوتر مع اليونان في شرق المتوسط، عقوبات أعلن أنه قد يجرى مناقشتها في القمة المقبلة المقررة في 24 أيلول/ سبتمبر الجاري.
الكل يستعرض قوته في شرقي البحر المتوسط، تدريبات بحرية وجوية تشارك فيها فرنسا واليونان وقبرص وإيطاليا، فيما تقوم سفن حربية تركية بمشاركة مدمرة أمريكية بتدريبات عسكرية في المنطقة نفسها. هي مواجهة سياسية اقتصادية يحاول الطرف الأول صبغها بصبغة قانونية عندما يتحدث عن القانون الدولي وقانون البحار والمعاهدات والاتفاقيات الدولية، باعتبارها القاعدة التي يجب أن تحكم سلوك الدول، ومنها طبعاً معاهدة لوزان التي أدت إلى اعتراف دولي بجمهورية تركيا كوريث للإمبراطورية العثمانية، لكنها باتت اليوم بعرف تركيا الحديثة أكثر معاهدة ظالمة لتركيا لأنها سلبت أراض وجزرا عديدة منها.
الاقتصاد اليوم في ظل المصائب المتواصلة على كافة الصعد، بات هو المحرك الأساس لسياسات الدول. وبعيدا عن الحسابات السياسية الداخلية التركية المتصلة بسعي الحزب الحاكم كسب المزيد من الشعبية، مع خسائره في الانتخابات البلدية، من هنا تفهم محاولات تركيا تعظيم حصتها من حقول الغاز البحري في المتوسط، وهو الأمر الذي، وبحسب استطلاعات الرأي التركية، ساهم بوقوف المعارضة جنبا إلى جنب مع الحزب الحاكم في المواجهة الدائرة في شرق المتوسط.
بالمقابل، فإن خلفية الموقفين اليوناني ومن ورائه القبرصي يسهل فهمهما فهما يعلنان نهارا جهارا رغبتهما في الدفاع عن مصالحهما المباشرة وحصتهما من حقول الغاز، بمعزل عن النقاش التاريخي حول الحدود البحرية بينهما وبين تركيا.
يبقى موقف الدول الأخرى بالمنطقة، فإن كانت الولايات المتحدة في عهد (دونالد ترامب) تتجه للإنعزالية بطرح قومي يسعى للنهوض بالاقتصاد الأمريكي على حساب أي اعتبارات سياسية او استراتيجية، فإن الموقفين الفرنسي والإيطالي أساسه الرغبة في مساهمة شركات البلدين في مشاريع التنقيب عن الغاز واستخراجه في قبرص واليونان، وأيضا مصر، ذلك أن حقول غاز شرق المتوسط ستتيح لهما فرصة تنويع مصادرها والحد من الاعتماد على الغاز الروسي، فضلا عن تمسكهما في المعاهدات البحرية وعلى رأسها لوزان، ورفضهما إعادة النظر بحدود بحرية رسمتها موازين القوى المنتصرة بعد الحرب العالمية الأولى.