محمود درويش: “في حضرة الغياب” أنت “الحاضر الدائم”
تزامنا مع ذكرى ميلاد شاعرنا الكبير التي تصادف يوم الثالث عشر من آذار/مارس من كل عام؛ دعيت –خلال الشهرين الماضيين- لغير لقاء وفعالية ونشاط ثقافي وفني. بعض هذه الدعوات جاءت من قبل مؤسسات تحمل اسم شاعرنا، وتحمل شرف مسؤولية النهوض بمشروع ثقافي متعدد الجوانب، مع أنه قد تم إنشائها تخليدا لذكراه الخالدة أصلا، وتقديرا للمكانة التي يتبوأها في حركة الشعر والنثر الفلسطينية والعربية والعالمية، وسعياً من أجل تعميم منجزه وتفرده الإبداعي وتراثه الثقافي الفذ على أوسع نطاق. في كل تلك اللقاءات التي جمعتنا في حبِّ محمود درويش، كنت أستشعر روحَهُ ترفرفُ فوقنا، وتلف كل جنبات المكان؛ مباركة تجمعنا، ورسالة المَحبّة التي نُطلقُها لهذه الأرض والتي خاطبها محمود بـ “سيدتي”، ولإنسانها الذي يُطوّرُ حياتَهُ ويُعمّرُها، والذي قد يجوع ويعرى، ولكنّهُ يتحدّى ويَنشدُ الأشعار ويعزف الموسيقى. وبالطبع، فإن المؤسسات التي تسير في هذا الإتّجاه الثقافي الذي يدلل على احترام الشعوب لذكرى مبدعيهم وتكريمهم بأنشطة وفعاليات لها من القيمة الفكرية ما يذكر وبصوت عال، هي -بدون أدنى شك- من تعي حقا أن: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”.
لم تتوقف تجربة محمود درويش الشعرية عند مراكمة حضورها اليومي في حياة شعبنا الفلسطيني، ويرجع ذلك –بالطبع- إلى الشخصية الشعرية التي يتمتع بها درويش وإلى قدرة قصيدته على مماهاة الشخصي بالعام، والتفصيلي بالكلي، إضافة إلى غنائيته الآسرة التي جعلته من أبرز شعراء الزمن الفلسطيني على مدى أربعة عقود، وهو الذي إرتبط اسمه بشعر المقاومة الفلسطينية؛ الثورة والوطن، والذي حرص على أن تحمل أشعاره المضامين الحداثية، بحيث بات أحد أبرز من ساهم في تطوير الشعر العربي الحديث وإدخال الرمزية فيه حيث يمتزج حب الوطن مع التغني بالحبيبة الأُنثى. وفي المحصلة، أصبح محمود درويش، ومن حيث يُقصد أو لا يُقصد، أيقونة تستدعى كلما اقتضت الحاجة، رغم أن شاعرنا يقطن فينا، وتعيش كلماته معنا وبذاتنا.
واليوم، ماذا عساني أقول يا محمود في ذكرى يوم ميلادك؟ غير أنك، على امتداد مسيرتك الإبداعية، مضت سنوات طويلة مريرة على نضال الشعب الفلسطيني دون أن يفقد الشعب، ودون أن يفقد الشاعر، البوصلة. فأنت بنفوذك الثقافي، قد أسهمت في هذه المسيرة المبدئية.
ثم نستذكر أنك الصديق الشامخ حد التمرد، الوديع حد التبتل، اللاذع حد القسوة، الهادئ حد التساؤل، يا من يفوح من خجله أو من “عدوانيته” عبق “العاطفة الثورية” ممتزجة بهالة من الوقار والإباء كثيرا ما تظهر بوضوح في صمته المستنكف. كما أنك الصديق الذي لاح في أفقه سعة مكان فما وجد إلا حيز النضال، فاعتلى الصهوة وامتشق القلم وأبى أن يلقيه حتى الرمق الأخير، جاعلا من لحن النضال وترا يعزف عليه أناشيد تحرر للأرض، وهكذا بقي الى أن سالت روحه بعيدا عنها، غير أنها في النهاية احتضنته ونام في حضنها قرير العين.
أسْمَوْك ”شاعر المقاومة الفلسطينية”، فاحتضنت مُثُلَها وقِيَمَها … ثم تجاوزَت تلك التسمية بشعر إنساني ذي إطار أوسع. وحين لقّبوك ”بالشاعر العربي الكبير”، أحببت الوطن من محيطه إلى خليجه… ثم مضيت شعرا- إلى ما وراء ذلك اللقب، إلى ما وراء تلك الحدود، منتشرا حيثما تتجلى الحضارة الإنسانية. وحين ناديناك بالوصف الذي استحققته، أي ”الشاعر العالمي” البارز، إنما كنا نعتمد على حقيقة انتشارك في عديد اللغات العالمية محققا باسم المقاومة والعروبة (ولو بشكل ”غير مباشر”) الحضور العريض مقرونا بحصاد وافر لأرفع الجوائز العالمية.
فيا محمود، يا أيتها القمة الإبداعية، ويا أيها الصديق الحميم منذ نصف قرن كامل من السنين الحلوة والمرّة (على قضيتنا وشعبنا وأمتنا، مثلما هي علينا شخصيا)، ويا من بدأت ”تكرهني” (كما قلت مداعبا) بسبب إلحاحي الذي –بعباراتك- ”لا مهرب منه”، “إلحاح المبراة التي تبري القلم بحنان وإصرار عجيبين”، وذلك على درب قبولك إضاءة حفل مؤسستنا (مؤسسة فلسطين الدولية) بأشعارك (وكان ذلك آخر حفل لك في الأردن الغالي). يومها، بادلتك المداعبة قائلا: ”لا بأس يا محمود أن (تكرهني)، فقد جاء الوقت الذي بات عليك تجريب نوع جديد من العواطف تجاهي غير الحب”!!! واليوم، يا من ”رحلت” ولم ترحل، أقول لك، ومعي جمهورك العريض المتزايد دوما، بأننا سنمضي في تجاوز قمم حبنا لك إلى قمم أعلى، مثلما تجاوزت أنت المضامين والأدوات التقليدية، ممتطيا صهوة حصان إبداعك الشعري والأدبي، صاعدا من قمة إلى أخرى أعلى. فيا ”حضرة الحاضر”، حضورك دائم معنا ولو عبر كوننا ”في حضرة الغياب”. ومع انقضاء (12) عاما (قوامها (12)”دهرا”) على رحيلك الوجودي عنا، أقول: أين أنت الآن، عنا؟! الشوق إليك -والله- كبير. والوجع يا صديقي -والله- كبير. والحنين إليك وإلى لسانك الذكي اللاذع -والله- كبير. وآه كم أحن الآن إلى ”جلسات البوح” التي لطالما عقدناها ثنائيا، وأسبوعيا تقريبا، يا محمود! وحنيني هذا يكاد يلامس حنينك إلى خبز أمك وقهوتها.
طوبى لشجاعتك وأنت تجهر برأيك. وطوبى لك نأيك بنفسك عن حالة “سقوط المثقف”، ناهيك عن حالة “المثقف الساقط”، طمعاً في جاه، أو إعلام، أو مال! وطوبى لك رفضك الإنزلاق على منحدر “شاعر ومثقف السلطان”، مكرساً نفسك رمزاً لنموذج: “سلطان الشعر والثقافة”! فأنت كنت دوماً نفسك، ولم تسمح لأحد بأن يجعلك “غيرك”، مدركاً أن أشرف المقاومين وأكثرهم ديمومة هو المبدع مثلك أو ممن صعد إلى ما يقترب من قمتك! وطالما أن طلبك الأخير كان أن نتركك ”ترقد بسلام”، أقول لك: طوبى لك خلاصك من وضع فلسطيني وعربي وإسلامي يزداد ترنحا تحت وطأة ”خمر التخلف المعتق” فبات على شفا منزلق هاوية لا يدرأ خطرها سوى ”عودة الوعي”، وبالتالي الحركة، لشعوب طال تغييبها! ولك المجد، لك المجد!