عن تجليات “الديموقراطية الإسرائيلية”: المبدع محمد بكري نموذجا!!
جل من شهدتهم مسيرة حياتي السياسية والثقافية من المناضلين والأصدقاء العرب والفلسطينيين كانوا من فئة المثقفين المبدعين النادرين بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ولو نبشت في ذاكرة ذلك “الزمن الجميل” الذي وهبني صداقاتهم، أو عصرت سنين العمر لسال منها نزيف من جراحاتي وربما من لهيب ذكرياتي التي تقودني على الفور نحو كوكبة بارزة من المبدعين المناضلين الفلسطينيين الراحلين تحديدا، على سبيل المثال لا الحصر، مؤكدا على عبارة “على سبيل المثال” حيث يضيق بنا المقال عن ذكرهم جميعهم، ولتذكرت بكل حنين الأصدقاء الغاليين: توفيق زياد، إميل حبيبي، راشد حسين، سميح القاسم، إدوارد سعيد، فدوى طوقان، عبدالرحيم محمود، عبدالكريم الكرمي، ماجد أبو شرار، سميرة عزام، غسان كنفاني، كمال ناصر، أحمد دحبور، السينمائي مصطفى أبوعلي، ناجي العلي، جمال بدران، وإسماعيل شموط، معين بسيسو، محمود طه، صخر أبو نزار، وبالطبع، صديقي الأثير محمود درويش الذي وصفه الكاتب المبدع سمير عطا الله قبل حوالي الشهرين بـ “شاعر الثورة ومحركها ببندقيته التي لم يطلق منها رصاصة واحدة”!. وحال محمود هذا هو حال الكثير من المبدعين الذين لم ينتقص “عدم إطلاق الرصاص” من نضاليتهم، مثلما لم ينتقص “إطلاق الرصاص” الذي خاض غماره مثقفون مناضلون آخرون… من إبداعهم. وطبعا، في سياق المسيرة ذاتها، شهدت أيضا -من أسف شديد- حال نفر ممن انتمى يوما إلى فئة المثقفين المناضلين لكنهم وقعوا لاحقا في حبائل الشيطان؛ فوظفوا إبداعهم في خدمة هذا الحاكم أو ذاك ومنظومته: منظومة الاستبداد والفساد والتبعية للأجنبي. كذلك، شهدت، بألم أفدح، ليس فقط سقوط المثقف بل رأيت ترويجا، هنا أو هناك أو هنالك- لـ “مثقف ساقط” أصلا وفصلا!.
لقد كتب عديد المثقفين والسينمائيين والمصورين والكتاب والصحفيين الفلسطينيين المبدعين بدمهم حينما كانت الرصاصات المنطلقة من كاتم الصوت، أو القنابل المزروعة على أعتاب بيوتهم ومكاتبهم أو عند جوانب سياراتهم، تسقطهم مضرجين بدمائهم، فكانت مقولة الشهيد المبدع حنا مقبل: “بالدم نكتب لفلسطين”، وذلك عند تأسيس اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين عام 1973، قاصدا أن الاحتلال وحلفاءه يريقون دماء المبدعين الفلسطينيين (والعرب وغيرهم) تحت مظلة اتهامهم بالتحريض “الإرهابي”!!!، ومنذ بداية مسيرة “الكلمة المقاومة” وعلى طريقها، جاءت رصاصات الغدر الصهيونية و”العربية” و”الفلسطينية” تغتال بين الحين والآخر مبدعا هنا ومبدعا هناك، من أجل إسكات أصواتهم المدافعة عن الحق الفلسطيني والعربي.
لقد ارتبط مفهوم المقاومة في الذهنية العربية والفلسطينية، بمواجهة الاحتلال، بالبندقية. كما حضر مفهوم المقاومة، في الأدب والفلسفة والأديان والأساطير، من خلال تمجيد بطولاتها وإشاعة ثقافتها، وأناشيدها، ونجاحاتها. لكننا، اليوم نؤكد أيضا على التجليات الإنسانية للمقاومة المتجسدة في الدفاع عن كل ما هو نبيل وجميل وإنساني. فالمحبة في زمن الكراهية والتعصب هي مقاومة. وتعزيز ثقافة المساواة والمواطَنة هو مقاومة ضد التمييز. وفضح وتفكيك ثقافة التكفير هو مقاومة للتخلف والظلامية. وتعليم صناعة المسرة والحياة، من أجل استرداد إنسانيتنا المختطفة، هو مقاومة. وإطفاء الحرائق المشتعلة في دين ودنيا المجتمعات العربية والمسلمة، هو مقاومة. وكذلك الأمر مع مقاومة الفساد والإفساد والغش والفتن الطائفية والمذهبية والإثنية. واستمرار المعلم الفلسطيني، في تدريس تلاميذه على أطلال مدرسته التي قصفها الاحتلال، هو مقاومة. وحركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها الـ “BDS” (الفلسطينية المنشأ العالمية الامتداد) هي مقاومة.
وإذا كان المبدعون المناضلون من الفلسطينيين، ومعهم قافلة عظيمة من المبدعين العرب، قد قدموا طلائع منهم على مذبح مقاومة المحتل، فإن قوافل أخرى مازالت تنتظرعلى درب معمودية حقوق فلسطين وستستمر، مهما تكالبت قوى الشر والظلم على هذه القضية. وعند هذه النقطة، ندخل مباشرة في الحديث عن محمد بكري، المبدع والمخرج والممثل الفلسطيني المعاند للخصم والعدو، والعنيد في الحق بقلبه قبل عقله، مخرج وصانع فيلم “جنين – جنين”. ونضيف: لقد أبدع بكري في عرض شهادات حية لسكان “مخيم جنين” موضحا ما حل به من قتل ودمار خلال العملية العسكرية التي نفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي في نيسان/ إبريل 2002. يومئذ، كرس محمد بكري نفسه في قافلة من باتوا يمثلون الفدائية الثقافية الفنية المبدعة، بل هو يمثلها بأرق وأرقى معانيها. فهو يعمل ويضحي من أجل قضية عامة هي قضية وطن يسعى لأن يقيم فيه العدالة الاجتماعية، ومحاربة مقارفات الصهيونية. هو فدائي ثقافي ملتزم بتحقيق مشروع وطني، ولم لا قومي، وربما هو يحلم بمشروع أممي. وكما قال عن نفسه: هو لا يكتفي بثوب العروبة وفلسطين بل يتعداهما إلى العالم أجمع. لذلك، وكما أعلن، تخاف دولة الاحتلال الصهيوني منه.
نعم، يخاف الكيان الصهيوني من محمد بكري الفدائي الثقافي، ولا يزال يلاحقه بسبب فيلم “جنين – جنين” بعد 18 عاما على إخراجه. وهو اليوم، يواجه في حكايته النضالية أنواعا مختلفة من التنكيل بما في ذلك مطالبات بتعويضات مالية هائلة. ولماذا؟ فقط لأنه عبر عن آلامه بعد المجزرة الإسرائيلية من خلال فيلمه الوثائقي “جنين – جنين”!!!، وبذلك، بات واضحا اليوم أن صرخاته الفنية التي عبر عنها الفيلم كانت مؤرقة وموجعة لسلطات الاحتلال؛ فخاضت ضده معركة قضائية، ونصبت له محاكمة سياسية لا تزال مستمرة، رغم اندراجها تحت بند انتهاك حرية التعبير عن الرأي، وتقييد الأعمال الفنية. وما هذا التنكيل سوى واحد من “تجليات” الديموقراطية الإسرائيلية المزعومة… وضد من؟ ضد مبدع فلسطيني كل “جريمته” أنه كشف بفيلمه “جنين – جنين” عن واحدة من جرائم الاحتلال.. وما أكثرها!