“مؤسسة الفكر العربي” وإسهامها في دعم المقاومة الثقافية
المقاومة مفهوم أشمل وأوسع من مجرد حمل السلاح. وصور المقاومة تتنوع، عنفا أو لا عنف. والمقاومة الثقافية، هي مقاومة بديلة ومضادة لثقافة الهزيمة والهيمنة وانتهاك حقوق الإنسان، بمعنى أنها ثقافة الحريات والعدالة وكرامة الإنسان والأوطان.
وتجسيداً لموقفها الداعم للقضية الفلسطينية، ولمناسبة الذكرى السبعين للنكبة، أطلقت “مؤسسة الفكر العربي” تقريرها العربي “الحادي عشر للتنمية الثقافية”، تحت عنوان “فلسطين في مرايا الفكر والثقافة والإبداع”. وفي حفل إطلاق التقرير، في مدينة الظهران في المملكة العربية السعودية، ألقى رئيس “المؤسسة”، صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، كلمة مؤثرة، بدأها بالقول: “ليست لدي كلمة اليوم، كلمتي واحدة هي فلسطين، فأهلاً بكم في الحديث عنها، وبتقديم فلسطين في هذا التقرير الذي أعتبره أفضل التقارير التي قدمتها مؤسسة الفكر العربي، وأكبرها حجماً، وأهمها علماً وثقافة. أعتقد أن الذين ساهموا في كتابة هذا التقرير، لم يكتبوه فقط، وإنما أذابوا أنفسهم وعقولهم فيه… فلنضع أيدينا في أيدي بعض في سبيل فلسطين العزيزة التي تستحق منا كل تضحية… إلى الأمام وإلى موعدنا المستقبلي في القدس الشريف”.
طبعا، لا بد من وجود مقاومة في ظل الاحتلال. وحين يكون ثمة ثقافة احتلال مصاحبة، فلا بد من وجود المقاومة الثقافية. ومن ثم فإن مقاومة الاحتلال هي عملية ثقافية مضادة، تسعى لتثبيت الثقافة الأصيلة. “فإسرائيل” القائمة على “الهجرة”/ الغزو وترسيخ الاستعمار/ “الاستيطان” كأحد أهم المكونات في مجتمعها، فشلت حتى اللحظة في صهر كل من هو مختلف وغير متجانس ولم تنجح محاولات إنتاج مجتمع متجانس له ثقافة أو هوية موحدة. لذا، فإن كل محاولة، سواء فلسطينية كانت أم عربية، لترسيخ وتثبيت الهوية الفلسطينية الثقافية المقاومة تأتي في سياق المقاومة بمفهومها الشامل مباركة ومرحب بها. من هنا، جاء تأكيد المدير العام “للمؤسسة” البرفسور (هنري العَويط)، من أن التقرير “فضلا عن أنه يُسهم في ترسيخ توجّهات المؤسّسة الفكرية، فهو يضطلع أيضاً بمهمّة الإعلان عن مفهومها للثقافة ودورها ووظيفتها كفعلِ مقاومة، ولأنّه يُترجم موقفها المناهض للاحتلال والداعم لفلسطين وقضيّتها والمؤيّد حقوق شعبها”. وأضاف: “الثقافة لا يسعها أن تبقى على الحياد في المعركة التي يخوضها الشعب الفلسطيني لمقاومة الاحتلال”.
وحيث أن الثقافة الفلسطينية، في ظل الاحتلال الاقتلاعي/ الإحلالي الصهيوني، هي في خطر دائم، تترسخ المقولة التي لطالما آمنت بها وقوامها أنه مثلما لا يوجد تقدم بدون ثقافة تقدم، كذلك لا صمود ولا تحرير ولا عودة بدون ثقافة صمود وتحرير وعودة. ومن المعروف أن احتلال العقل لربما يوازي صعوبة احتلال الأرض بل يضاهيه أحيانا، فالدولة الصهيونية تحاول نسف الذاكرة الفلسطينية وطمسها وسرقتها ان استطاعت، ولذلك نجدها تقوم بتغيير أسماء الأمكنة سواء كانت مدنا أم بلدات أم قرى أم أنهرا أو بحيرات… الخ. هنا تظهر ردة فعل وأهمية المقاومة الثقافية القادرة على الدفاع عن العقل، وهو أمر رصده الشهيد غسان كنفاني منذ زمن طويل عندما تحدث عن القاعدة الثقافية التي تؤسس للمقاومة، كاشفا العلاقة بين السياسة والثقافة.. كما بين البندقية والفكر، حيث كتب يقول في مقدمة مؤلفه “الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968”: “ليست المقاومة المسلحة قشرة، هي ثمرة لزرعة ضاربة جذورها عميقاً في الأرض… ومن هنا، فإن الشكل الثقافي في المقاومة يطرح أهمية قصوى ليست أبداً أقل قيمة من المقاومة المسلحة ذاتها”.
الخطوة الأولى، باتجاه تطوير ثقافة المقاومة وتنميتها، تبدأ من خلال الوعي الموضوعي بالتحديات، وبناء رؤية متماسكة، في ضوء مراجعات فكرية لثقافة المقاومة، وتعزيز قيم وآليات جديدة لثقافة بناءة، وهو ما رسخته محاور تقرير “مؤسسة الفكر العربي” السبعة التي تناولت فلسطين وقضيتها عبر تجليات الإبداع الفكري والثقافي والأدبي والفنّي، وهي: فلسطين في فكرِ رجالات النهضة العربية، فلسطين فلسفياً وفي مدارات العلوم الإنسانية، فلسطين: التاريخ والهوية، فلسطين في مرايا الأدب والفنّ والإبداع، فلسطين في مرايا الثقافة العالمية، اللّغة والتربية والعلوم في فلسطين، وملفّ القدس. ومما يستحق مدحا خاصا كون التقرير قد تضمن بيبليوغرافيا توثيقية موسعة، حرصت على التعريف بأهم ما صدر في الأعوام الأخيرة (2014 – 2018) من مؤلفات باللغتين الفرنسية والإنجليزية حول تاريخ فلسطين، وقضيتها، ومدنها، ونتاج أبنائها الإبداعي. كما حرص “التقرير” في معرض التصدّي لمحاولات تزوير التاريخ، على تصحيح الروايات، وتقديم الأدلة على عراقة الانتماء، والإضاءة على مشاريع إحياء التراث، وإبراز كل ما يؤول إلى حفظ الهوية الفلسطينية وأصالتها.
التقرير جهد مبارك في سياق المقاومة الفلسطينية والعربية المشروعة للاحتلال الإسرائيلي، والمكفولة في القانون الدولي، فهي تجسد إعمالا لحق أساسي من حقوق الإنسان هو حق الدفاع الشرعي عن النفس/ الذات/ الهوية والحق في تقرير المصير.