ماذا بعد قرار “الجنائية الدولية” ضد الممارسات الإسرائيلية؟
بعد خمس سنوات من التدقيق (و”الحرج” من الضغوط الإسرائيلية/ الأمريكية المشتركة)، أكدت المدعية العامة “لمحكمة الجنايات الدولية” في لاهاي (فاتو بنسودا) توفر معايير فتح تحقيق شامل في ارتكاب “جرائم حرب” إسرائيلية “محتملة” في الأراضي الفلسطينية (الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، وفي قطاع غزة)، وذلك رغم الحملة الإعلامية الإسرائيلية اللاحقة الهادفة تشويه صورة (بنسودا) واتهامها بالانحياز للفلسطينيين وأنها استسلمت لجهات “معادية لإسرائيل”.
“المحكمة الجنائية الدولية” تعمل وفق مبدأ المسؤولية الشخصية عن الجرائم. ولا تتطرق إلى صراعات بين دول ولا ترفع دعاوى ضد دول. ومع أن التحقيق سيشمل قائمة بجرائم جرى تنفيذها من جانب جميع الأطراف على رأسها جيش “الدفاع” الإسرائيلي، لكنه أيضا سيشمل فصائل المقاومة الفلسطينية، أي أنه سيساوي بين الضحية والجلاد ما يمكن أن يقدم فلسطينيين للمحكمة بزعم ارتكاب جرائم ضد المدنيين الإسرائيليين.
في سياق، الهجمة الإسرائيلية ضد قرار (بنسودا)، اعتبر المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية (أفيخاي مندلبليت) أن “الضفة وغزة” ليستا ضمن صلاحيات “المحكمة”، مستندا على الزعم بأن “لإسرائيل الحق القانوني في المناطق التي يطلب الفلسطينيون من “المحكمة” استلام صلاحية التحقيق فيها، رغم أنه وبدعم المجتمع الدولي فإن اتفاق “أوسلو” وغيره من الاتفاقيات تؤكد أن حل الخلافات بين الفلسطينيين والإسرائيليين يأتي في إطار المفاوضات الثنائية، وعليه ينتهك الفلسطينيون هذه الاتفاقيات الموقعة بين الجانبين”. في السياق، قال (ماتان جوتمان) الخبير القانوني الإسرائيلي: “اتفاقية “أوسلو” قد تكون “أفضل دفاع” ضد التحقيق الذي تنوي المحكمة الجنائية فتحه ضد جرائم إسرائيل بحق الفلسطينيين. إسرائيل يمكن أن تقدم عددا من الحجج القانونية لإثبات أن القانون إلى جانبها، ومن ضمنها أنه لا يوجد للفلسطينيين دولة حتى الآن، وأن اتفاقيات أوسلو الموقعة تنص على أن لإسرائيل سلطة قضائية وحيدة على الأعمال الإجرامية التي يرتكبها الإسرائيليون في المناطق (الأراضي الفلسطينية)”.
الدولة الصهيونية، ومن ورائها الولايات المتحدة الأمريكية، ستعملان على إفشال التحقيق عبر ضغوط إضافية تمارس على المدعية العامة و”المحكمة” وربما على دول مؤثرة، عربية وأجنبية، لثني القيادة الفلسطينية والمحكمة عن المتابعة. فالأمر، بالنسبة لإسرائيل، جد خطير وهذا ما ظهر جليا من ردة الفعل الإسرائيلية في مختلف الأوساط، حيث أن المحاكمة يمكن أن تطال القادة الحاليين والسابقين الإسرائيليين وقادة المستعمرات/ “المستوطنات” وكل الذين ارتكبوا جرائم بحق الفلسطينيين. وبحسب الإعلام الإسرائيلي: “الباب مفتوح أمام كل مواطن فلسطيني لمقاضاة إسرائيل بأثر رجعي من عام 2014، وبنيامين نتنياهو سيستجوب بسبب التوسع الاستيطاني وبيني غانتس عن دوره بحرب غزة عام 2014، وسيشمل الاستجواب وزراء حاليين وسابقين من بينهم وزير الدفاع الحالي نفتالي بينيت، والسابقان أفيغدور ليبرمان وموشيه يعلون. وقد يشمل استجواب المحكمة لوزراء الإسكان الحالي والسابقين، لدورهم في البناء وتوسيعه في المستوطنات. ولن ينجو مسؤولون عسكريون وأمنيون حاليون وسابقون من التحقيق ومنهم: رئيس جهاز “الشاباك” الحالي نداف أرغمان، وسلفه يورام كوهين، ورئيس الأركان الحالي أفيف كوفاخي، وسلفه غادي أيزنكوت”. ووفقا للإذاعة العبرية الرسمية، فإن “المسؤولين الإسرائيليين من عسكريين وسياسيين باتوا أمام احتمالية الاعتقال إن سافروا إلى 100 دولة، بسبب جرائمهم التي ارتكبوها بحق الشعب الفلسطيني”.
ما زال الطريق طويلا حتى نشهد ذلك اليوم الذي يحقق فيه الشعب الفلسطيني إنجازا في سعيه إلى تقديم مجرمي الحرب الصهاينة إلى المحاكم الدولية. واليوم، المطلوب فلسطينيا لاستكمال هذه الخطوة، توحيد الجهد الفلسطيني لضمان إنجاز ملفات قضائية ضد الاحتلال، وتحويلها لقرارات من خلال تقديم ملفات جنائية ضد جرائم الاحتلال. فالموقف الإسرائيلي/ الأمريكي الموحد يعني أن العمل لن يكون سهلا، وعلى الفلسطينيين رفع الملفات للجنائية دون انتظار للموقف الإسرائيلي، مع ضرورة قيام السلطة الفلسطينية بتوسيع وتفعيل الطاقم الحقوقي الفلسطيني بخبرات عربية ودولية، للبدء في إعداد الملفات الجنائية الناضجة ضد الاحتلال، ذلك أن ضغوط الوقت قوية حيث أن الغرفة الابتدائية “للمحكمة” معها 120 يوما قابلة للتمديد لمدة 60 يوما، والسقف الزمني يصل إلى ستة أشهر كحد أقصى، وخلالها ستبت المحكمة بما قدمته المدعية العامة.
وقبل هذا وذاك، الفلسطينيون اليوم بحاجة إلى إستراتيجية، هي قديمة جديدة، أساسها ما يجري على الأرض وتعزيز الصمود والمقاومة الشعبية والمقاطعة من جهة، والعمل السياسي والقانوني والدبلوماسي والإعلامي من جهة ثانية. والأولوية هي دوما لاستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية عبر إنهاء الانقسام. وحتى لا يخسر الفلسطينيون فرصة “المحكمة الجنائية الدولية”، هم مجبرون على تذكر فرص عدة أضاعوها، على رأسها إجهاض متابعة وتفعيل قرار “محكمة العدل الدولية” بخصوص جدار الفصل العنصري في عام 2004، وإجهاض “تقرير غولدستون” في عام 2009. إن ما بدأته المدعية العامة لمحكمة الجنايات الدولية بعد طويل انتظار هو فرصة ذهبية لوضع مستويات قيادية إسرائيلية متعددة أمام مسؤولية جرائمها التي طالت فيها العملية المزدوجة للتستر عليها و/ أو توفير الحماية لهم ضد المساءلة!