قوى “شعبية” عربية مقابل قوى “شعبوية” غربية
منذ نحو ثلاث سنوات، عرف العالم العربي أزمات تسببت بها أحداث سياسية واقتصادية وأمنية بارزة، هيمن عليها استمرار النزاعات الدموية في سورية واليمن وليبيا، وتزايد نفوذ إيران واتهامها بالتدخل في الشأن العربي وخاصة في العراق وسوريا واليمن، فيما لم تسجل هذه السنوات الثلاث أي تطور إيجابي ميداني كبير لصالح القضية الفلسطينية، إذ واجهت القضية الفلسطينية وما زالت حربا شعواء من حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو) مدعوما بشكل سافر لا سابق له من الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) وإدارته رغم التصاعد في التأييد الحزبي والجماهيري في دول عديدة في الغرب للقضية الفلسطينية.
… وسبحان مغير الأحوال. فاليوم نلحظ، خارج الوطن العربي هذه المرة، أزمات شبه مستعصية في بلدان العالم الغربي “المتحضر” أساسها “الشعبوية”، التي تكاثرت أحزابها وحركاتها في البلدان الغربية خاصة، ولم تعد شعاراً فقط. هي الآن برنامج حكم يتسع على امتداد عدد من الدول الغربية المؤثرة ويمتد صداه إلى دول أخرى، دول باتت تتبنى خطابا سياسيا قائما على معاداة مؤسسات النظام السياسي ونخبه المجتمعية، حتى أضحت هذه الأحزاب والحركات قوة سياسية واجتماعية حاضرة بقوة بأنحاء أوروبا وبالولايات المتحدة الأمريكية وبإسرائيل خاصة في أوساط اليمين المتطرف متسببة في سلسلة أزمات بنيوية داخل تلك البلدان. وقد تزامنت البدايات الأهم مع تولي الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) الرئاسة في عام 2016، الذي أطلق عليه “عام الشعبوية السياسية”، حيث بات مصطلح “الشعبوية” يتردد في المنابر الإعلامية عند كل عملية اقتراع تجرى في البلدان الغربية، القاسم المشترك بينها مناهضة العولمة، والهجرة واللجوء، وسياسات التقشف المالي التي تُضعف الإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية، إضافة إلى النزعة القومية الحادة والتحصن وراء الهوية الوطنية، وكل هذا مرتبط ارتباطا وثيقا بعنصرية صريحة.
الأزمات شبه مستعصية اليوم في بلدان اليمين الشعبوي ممثلة بالأساس في الولايات المتحدة. فالرئيس (ترامب) يتصرف معتمدا في صنع القرارات على نزواته كشخص وكحاكم وليس على سيادة القانون أو المؤسسات المستقلة، حتى باتت أمريكا تعيش اليوم حالة شعبوية متنامية، في ظل خطاب عنصري، مع رئيس لا يبالي حتى بالتهكم على مؤسسات الدولة ومناصبتها العداء مستخفا بأي معارضة لسياساته. فمما فعله (ترامب) تحويل المجتمع الذي كان إلى ما قبل عهد (ترامب) يؤمن بالإختلاف وتعدد الآراء، حتى بات “مجتمعا” يعتبر الرأي الآخر خائنا يضر البلاد، وغدت مواقع التواصل الاجتماعي مليئة بلغة التجريم والتخوين، بل تطورت الأمور ووصلت إلى درجة توجه الحزب الديمقراطي أخيرا لمحاولات عزل (ترامب).
كذلك هي إسرائيل، الموصوفة زورا بأنها من أنجح الديمقراطيات في العالم، وواحة الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، لكنها، في حقيقة الأمر، تسعى دوما لمحو الشعب الفلسطيني وتاريخه. ومع التواطؤ الأمريكي الراهن، الذي بات متماهيا مع اليمين الإسرائيلي المتطرف، مأسست الدولة الصهيونية للعنصرية والفاشية: حكومات أكثر يمينية، في ظل تعاظم السياسات المتطرفة تجاه العرب والفلسطينيين. ومع إقرار “قانون القومية” الذي شطب مبدأ ضمان المساواة في الحقوق الاجتماعية والسياسية للجميع، نرى في إسرائيل نظاما متهودا يمارس ممارسات فاشية ويستند إلى نزعة عسكرية عدوانية وتوسعية تهدد أمن الذين من المفترض أن يمثلهم ويحميهم. بل إن الدولة الصهيونية تمادت حتى شملت كل إسرائيلي ينتقد مقارفات الاحتلال. وفي هذا السياق، كتبت أسرة التحرير في صحيفة “هآرتس” في افتتاحية جديدة: “الأزمة الحالية في إسرائيل هي وليدة مباشرة لحكم يميني طويل السنين، هدام ومحرض، كان مصمما على تصفية البنية التحتية الديمقراطية لاسرائيل، وأجرى نزع شرعية لملايين المواطنين، سواء كانوا من الاقليات أم من الخصوم السياسيين”.
منذ الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) في ذات العام 2016، حاولت دراسات عدة فهم ظاهرة انتشار الشعبوية من داخل يمين الأحزاب الأوروبية ويسارها مستغلة الأزمات غير المسبوقة التي يشهدها “الاتحاد” منذ الحرب العالمية الثانية، خاصة وأن السمة الرئيسة التي تميز أحزاب اليمين المتطرف حشدها السريع لتأييد الجماهير على خلفية أزمة الهجرة. فجاءت انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة لتثبت صعود القوى الشعبوية، وإن لم يكن بصورة كاسحة. وفي مناخ كهذا، تفاقمت الأمور إذ جاء (بوريس جونسون) كرئيس للوزراء في بريطانيا، أو من بات يعرف بـ “ترامب بريطانيا” (نظرا للتشابه بينه وبين الرئيس الأمريكي سواء في المظهر الخارجي، أو في طبيعة الشخصية). فقد أثبت (جونسون) شعبويته واستخدامه لغة عنصرية فجة تجاه المسلمين والمهاجرين، وباتت سياسات إحدى أعرق الديموقراطيات الأوروبية أقرب إلى العنصرية والتماهي مع اليمين المتطرف، بل هو، وفي خضم حملة “بريكست”، وصف الاتحاد الأوروبي بأنه: “مشروع زعيم النازية أدولف هتلر الذي حاول إنشاء دولة أوروبية واحدة”!!!
موجة الشعبوية في دول ومجتمعات أوروبا والولايات المتحدة تتنامى. ومن الواضح أن هذه الدول تمر الآن في أزمة بنيوية حقيقية، ففي الوقت الذي لم يعد مستبعدا تماما سيناريو انهيار الاتحاد الأوروبي مع تواصل قوى الشعبوية اليمينية/ القومية في القارة العجوز، تواجه الولايات المتحدة مخاطر عدم الاستقرار مع انتشار أعمال عنف وقتل جماعي، فيما بات مجتمعها يمر بحالة اضطراب اجتماعي في ظل غضب يتصاعد لدى الطبقة الوسطى على الزيادة الكبيرة في نفوذ طبقة بيضاء متحكمة.
هذه الأزمة البنيوية في أوروبا والولايات المتحدة قد تؤدي إلى اتساع وتفاقم حدة الأزمات مما سيتسبب بتغييرات جذرية في وقت يبدو أن هذه البلدان تفتقد لزعماء عاقلين قادرين على كبح هذا الجنون اليميني الشعبوي. بالمقابل، هناك تحسن ملموس يشرح الصدر ويلغي تدريجيا الصورة السوداء للعالم العربي ينبئ بتطورات إيجابية نحن بأمس الحاجة إليها. فالتجربة الديمقراطية التونسية ناجحة إلى درجة معقولة ودليل على نمو مضطرد في نضج هذه التجربة. كما أن طريق الديموقراطية أصبح شبه سالك في السودان مع بدء تطبيق مبادئ التحول الديمقراطي، فيما عبرت الجزائر عن وعي جمعي ناضج يسير في طريقه لخلق نظام ديمقراطي. إذن، نحن أمام تحولات تتضمن ظهور قوى “شعبية” عربية متنامية مقابل قوى “شعبوية” غربية.