مفاصل قوة الدولة الصهيونية
تقوم قوة الدول على جملة من العوامل والأسباب والاعتبارات، والتي قد تتغير من وقت لآخر تبعًا للظروف المحيطة بها. وبات معروفا أن نجاح الدول، سياسيا وعسكريا واقتصاديا، يكمن في مدى قدرتها على التعاطي مع المتغيرات وإدارة الأزمات، ووضع الخطط المستقبلية، وإعداد المستطاع من أنواع القوة.
لقد أدركت الدولة الصهيونية في أعماقها حقيقة ما جاءت به من ظلم ضد الشعب الفلسطيني فخلقت “إيمانها” بأنه في منطقة الشرق الأوسط لا وجود للضعيف. لذا، عندما أنشئت الدولة الصهيونية ترسخ في ذهنها أنه من أجل بقائها قوية هي بحاجة إلى قوة عسكرية التي بدونها لا وجود لأي دولة بل قوة عسكرية متنامية كما ونوعا. كما أدركت أنه لكي يكون لديها قوة عسكرية متفوقة هي بحاجة لأحدث المعدات والتكنولوجيا العسكرية ناهيك عن الأسلحة والصواريخ والطائرات بل والقنابل الذرية. وبما أن هذه الأمور مكلفة للغاية والشيء المشترك فيما بينها هو المال، لم ترفع الدولة الصهيونية الضرائب على الناس لمستويات أكثر من اللازم، الأمر الذي كان سيؤثر حال تطبيقه سلبا على الاستثمار.
تعلم الدولة الصهيونية أن الحل يكمن في إنجاز قوة اقتصادية من أجل أن تصرف على القوة العسكرية. وها هي قوتها وتأثيرها يتعاظمان بمساعدة دول العالم الغربي والولايات المتحدة الأمريكية، حيث نجحت في “مشروعها” كدولة من خلال التكامل بين السياسة والاقتصاد فلا يضع أي منهما قيودا على الآخر، بل يقوم بتكميله وتطويره ودعمه: فالسياسة تذلل العقبات أمام نمو الاقتصاد، والاقتصاد يهيئ البيئة الملائمة لتحقيق الأهداف مثلما يهيئ لرفع سقف الأهداف السياسية.
القوة الاقتصادية تحصل عليها فقط عبر الاقتصاد الحر لكن المنضبط. وقد ظهرت صدقية هذا الطرح مع ما واجهه الاتحاد السوفييتي السابق الذي امتلك المبدعين والعلم والتكنولوجيا إلا أنه وصل قبل انهياره إلى حد الإفلاس لعدم وجود الاقتصاد الحر، الحامي للمبدعين والداعم للعلم والتكنولوجيا. لذلك، أولا وقبل أي شيء سعت الدولة الصهيونية إلى جلب المال من أجل تمويل قوتها الاقتصادية، فطورت اقتصادها، وبهذا حصلت على القوتين الكبيرتين: الأولى القوة الاقتصادية ذات التميز التكنولوجي التي يسعى وراءها اليوم العالم أجمع ويريد أن يستفيد منها، والقوة الثانية القوة العسكرية بتكنولوجيا متقدمة أيضا والتي تخيف كل من يفكر في مواجهتها و/ أو يسعى لرضاها وتعاونها، حتى بات للدولة الصهيونية رأيا وتأثيرا في كل حدث في منطقة الشرق الأوسط.
ومع الاعتبارات الأمنية التي تعد القضية المركزية لدى الدولة الصهيونية والتي لطالما خدمها الاقتصاد لاعتبارات تأسيس الدولة في محيط معارض، أصبحت الصناعات العسكرية مصدر دخل اقتصادي وتأثير سياسي دولي. فبحسب تقرير معهد “ستوكهولم” الدولي لأبحاث السلام “سيبري” للعام 2018، عززت الدولة الصهيونية مكانتها “كأكبر دولة مصدرة للأسلحة لجميع أنحاء العالم، حيث احتلت المرتبة السابعة عالميا في تصدير الأسلحة، فيما ارتفعت صادرات الشركات الإسرائيلية لصناعات الأسلحة بحوالي 55% على مدار الخمس سنوات الماضية”. في السياق، أكد تقرير مشترك للصحفيين (توفا كوهين) و(آري رابينوفيتش) إنه “من الطائرات دون طيار إلى الأقمار الصناعية وأنظمة الدفاع الصاروخي إلى الحرب الإلكترونية، تقود إسرائيل العالم في مجال التكنولوجيا الجديدة، خاصة في المجال العسكري”. ويضيف التقرير “تتوقع دراسة أبحاث السوق الخاصة بأسلحة الحرب العسكرية السيبرانية أن تصعد هذه الأسلحة على قائمة المشتريات العسكرية الدولية، وكواحدة من أكثر القطاعات العسكرية ربحية بالتوازي مع الامتداد الإقليمي لهذه الصناعة. وتبرز إسرائيل كواحدة من أبرز رواد الصناعات العسكرية السيبرانية وهي تعمل على اكتساح السوق عبر مواجهة القواعد المفروضة على تصدير هذه الأسلحة ومعدات التسلل الإلكتروني وبيعها في الخارج”.
وكنتيجة لهاتين القوتين، حصلت الدولة الصهيونية على القوة الثالثة في معادلة الدولة الناجحة، ألا وهي القوة السياسية. فاليوم، لإسرائيل علاقات دبلوماسية مع أكثر من 160 دولة، وبات العالم وعلى رأسه الدول الصناعية الكبرى يأتي إليها. وإضافة للولايات المتحدة الأمريكية الداعم الأكبر ومن ورائها دول الاتحاد الأوروبي، ها هي الصين والهند واليابان، ودول جنوب أمريكا، كذلك، دول إسلامية على رأسها كازاخستان وأذربيجان، ودول إفريقية (مع ملاحظة أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو زار وفي غضون عامين فقط القارة السمراء 4 مرات) تلهث جميعها لعقد الصفقات مع الدول الصهيونية.
ومع انتعاش هذه القوى الثلاث وعلى رأسها السياسية حصلت الدولة الصهيونية على موقع قدم قوي في العالم العربي. فعلاقات “إسرائيل” تزداد وتكبر يوما بعد يوم مع تقارب متفاوت – كما أعلن عنه (نتنياهو) نفسه – “مع كل الدول العربية(!!!) الذين باتوا يرون في الدولة الصهيونية ثروة مضاعفة يمكن الاستفادة منها”.
لكن هناك قوة رابعة، تستغلها الدولة الصهيونية لتثبيت دعائمها، ألا وهي القوة الروحانية التي تتمثل في استثمارها/ استغلالها أسطورة الوعد الإلهي المزعوم بأن أرض فلسطين المقدسة “أرض كنعان” اختارها الله لبني صهيون “الشعب المختار” ليسكنوا إليها، فقد وعد الله، حسب توراتهم، سيدنا إبراهيم وعاهده على أن تكون هذه الأرض لنسله، فهي “أرض الميعاد” التي سيعود إليها اليهود تحت قيادة المسيح المخلص، والأرض التي ستشهد نهاية التاريخ! وها نحن نرى الأثر الكبير لهذه المقولات “الروحية” التوراتية ليس في تعزيز “اللحمة اليهودية” في أوساط واسعة لدى يهود “إسرائيل” والعالم، بل وأثرها على قوى متهورة متمسيحة (الأفلنجيكيون) على امتداد العالم وبخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية.