بسام الشكعة: صديقي، مبتور الساقين، الذي مات واقفا!
هو أحد كبيرين تأثرت بهما في بواكير حياتي السياسية. الأول كان جمال عبد الناصر الذي اوقعني طفلا في شباك عشقه مطلع خمسينيات القرن الماضي، والثاني بسام الشكعة (أبا نضال) حين تعلقت بحبال حبه المعاش يوميا منذ العام 1957، وهو المختفي لدى منزل والدته غالبا، ويكاد يكون يوميا ولساعات في منزل والدّي، الذي كان امتدادا لصيقا ببيت والدته، حيث يفصل المنزلين نافذة واسعة من “الزجاج المبزّر”!
واليوم، في “ذكرى أربعينه”، أسجل: لطالما وجدت (أبا نضال) من طينة “الإنسان فوق العادي”. صحيح أنه ولد وفي فمه ملعقة من ذهب، لكنه توزعها، وما فيها، مع الكادحين. وسرعان ما أصبح في طليعة الشخصيات الوطنية الفلسطينية التي تحظى باحترام كبير في الشارعين العربي والفلسطيني إذ جعل توجهه القومي العربي منه “زعيم” البعثيين في فلسطين (حتى لو لم يكن أعلاهم مرتبة تنظيمية). ولطالما مضى (بسام) ساعيا مع الساعين، لإنجاز إيمانه بالوحدة العربية الشاملة، مستهدفا تحرير فلسطين وبناء عالم من الحرية والإشتراكية على امتداد أرض العرب. وفي مسيرته هذه، دفع “المناضل الأبدي” بسام الشكعة ما “توجب” دفعه ثمنا لذلك الإيمان والسعي سواء من حريته أو أمنه أو رغده أو راحته حيث قضى شطرا من حياته مختفيا أو سجينا أو لاجئا/ منفيا قبل أن يعود إلى مدينته، مدينة نابلس “جبل النار”، التي ما فتئت تبادله الوفاء واعتادت وجوده. وإلى آخر لحظات حياته، ظل النابلسيون وعموم الفلسطينيين يحجّون إلى منزله ويتباركون بطلّته، وأكاد أجزم أن مجرّد وجوده على قيد الحياة كان يبعث الاطمئنان ويبث السكينة في الكثيرين وينبئهم بأن هناك مقاتلين وطنيين من جيل العمالقة ما زالوا يحرسون قضيتهم ويذودون عنها.
وحين بسط الاحتلال الإسرائيلي فاشيته على ما تبقى من أرض فلسطين في “حرب” 1967، وجد بسام –ذلك “الإنسان فوق العادي”- نفسه، وجها لوجه، مع المحتل الذي كان يأمل – لسنوات مضت – أن يواجهه المواجهة الحاسمة بعد إنجاز بناء “الدولة العربية الواحدة”. منذئذ، لم يضيع (أبو نضال) ثانية واحدة خارج نطاق الكفاح وصولا إلى خوض انتخابات البلدية عام 1976 حيث رئس “القائمة الوطنية” في آخر انتخابات للبلديات الفلسطينية في الأرض المحتلة تحت الاحتلال الإسرائيلي، وفاز برئاسة بلدية نابلس، وشكل مع إخوانه رؤساء البلديات الأخرى (فهد القواسمة، محمد ملحم، إبراهيم الطويل، كريم خلف) وآخرون من ممثلي المؤسسات الشعبية والأحزاب “لجنة التوجيه الوطني” التي قادت النضال ضد الإستعمار/ “الاستيطان” وممارسات المحتل الصهيوني، وطبعا دون أن تطرح “اللجنة” نفسها بديلا عن منظمة التحرير الفلسطينية.
وكعادته، قاوم (بسام) الدولة الصهيونية كشجرة زيتون فلسطينية متجذرة في الأرض تواجه بأغصانها جبروت الاحتلال الإسرائيلي وغطرسته، متسلحا بإرادة فولاذية. فمن موقعه كرئيس للبلدية، اصطدم بالحكام العسكريين، ورفض عديد أوامرهم التي تتعارض مع مصلحة الوطن. وسرعان ما ضاق هؤلاء به وبرفاق له من طينته الزّكيّة بعد أن عملوا على تحدي الاحتلال ومقارفاته، ونسقوا مع الحركات الطلابية في جامعات بيرزيت والنجاح وبيت لحم، والنقابات المهنية والعمالية وغيرها من قوى المجتمع، الأمر الذي عزز من الالتفاف الشعبي حولهم. ولقد نجح هذا “الإئتلاف الشعبي” في إفشال قرار إبعاد (بسام) وعدد من رفاقه عن أرض فلسطين، كما لعب دوراً كبيراً في إفشال المخططات الإسرائيلية لما كان يطلق عليه “روابط القرى”، إضافة إلى دوره في محاربة المخططات الاستعمارية/ “الاستيطانية” من خلال تثبيت الناس في أرضهم، وتشجيعهم على استصلاح أراضيهم في مناطق الأغوار وغيرها، وفي إفشال خطة “ألون”.
استمر الكفاح بقيادة (أبي نضال) المبادرة، فقرر الاحتلال نسفه بالمعنى الحرفي للكلمة، وقد فعلوا!، فلقد أدى انفجار عبوة وضعت في سيارته في 2 حزيران/ يونيو 1980 (مع اثنين من زملائه هما رئيس بلدية رام الله كريم خلف آنذاك، ورئيس بلدية البيرة إبراهيم الطويل) إلى بتر ساقيه كما بترت ساق خلف. وبعد عملية التفجير، بقي لخمسة سنين محاصراً في بيته وجنود الاحتلال يطوقون بيته ويمنعون زواره من التواصل معه، عدا عن المضايقات التي واجهها وأفراد أسرته من الجنود الغاصبين. لكن (بسام) بقي صامدا مقاوما مدافعا عن حقه وحق شعبه دون أن يضعف أو يتنازل أو يساوم، مطلقا عبارته الشهيرة (بعد بتر الساقين): “الآن أصبحت أقرب للأرض”!
عجز الفاشيست الصهاينة، بمقارفتهم هذه، عن “الإرتفاع بجريمتهم” إلى ما فوق ركبتيه!. وهكذا بقي من (بسام) الرأس المرفوع المقاوم، والصدر المقاوم، والقلب المقاوم، والعقل المقاوم، واللسان المقاوم، واليدان المقاومتان. ومنذئذ، لم تتوقف هذه الأسلحة المشهرة من تفاصيل جسده… عن المقاومة بنصف جسد، لكن بعزيمة أمة! وحقا، كان (بسام) من جنس البشر الإستثنائي الذي يسير على قدمين ثم –فجأة- صار نسرا يطير محلقا، مرتقيا من الثرى إلى الثريا! فمنذ اللحظة الأولى التي بترت فيها قوى الإحتلال الفاشي ساقيه، خرج (أبو نضال) من دائرة “الإنسان فوق العادي” إلى عالم النسور التي لا تقهر!، لا بل اقترب في سلوكه –كما شعبه الفلسطيني المقاوم- من أسطورة “طائر الفينيق” الذي عادة ما يخرج من رماد الحريق أكثر قوة وأشد إصرارا على إكمال مسيرته، مدركا مسبقا حجم التضحيات الكبيرة، وثمن المقاومة الباهظ، في صورة تستمد منها أمته دروساً في التحدي والتجدد والإندفاع، ورمزاً تتعلق به، وتميمة ترد عنها السوء.
وبالعبارات ذاتها التي خاطبتك بها في حفل تكريمك الذي أقمناه (مؤسسة فلسطين الدولية في الأردن) قبل ثلاث سنوات، أكرر: أخي العزيز: لأنك أنت من أنت، ولأنك تمثل ما تمثل، ولأنك ما فتئت تضيء ظلامنا، وجدنا أنفسنا –بقوة إبداعك النضالي- نقتنع بأن للحياة جدوى. فأنت… كأمثالك، هم من يجعلوننا نعلن بالفم الملآن: حقا: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”…. لا بل الشهادة أيضا!، وستبقى يا صديقي الأثير، في خاطري دوما، أحلق في سمائك كل صبح ومساء، فخيالي أنت له فضاء بلا انتهاء، وسأبقى –إلى حين لقاء يجمعنا في “الآخرة”- محتسيا كؤوس شوقٍ لك دون ارتواء!