تدهور “اليسار الإسرائيلي”: الحيثيات والأسباب
أظهرت نتائج الانتخابات الإسرائيلية استمرار تراجع “اليسار” الصهيوني. ولم يكن صدفة اقتراح (نتنياهو) على رؤساء “الائتلاف الحاكم” تخفيض نسبة الحسم ½ بالمئة بحيث يسمح ذلك بانقسام أكثر داخل “اليسار” وأيضا داخل اليمين. وفي هذا تقول “هآرتس”: إنه “أسلوب “فرّق تسُد” الذي ينتهجه رئيس الحكومة، لا يطبقه فقط في علاقته بالمجموعات المتعددة التي يتألف منها الجمهور الإسرائيلي، بل أيضاً في علاقته إزاء خصومه السياسييين. فكثرة الأحزاب يستفيد منها نتنياهو. أحزاب معارضة تتنافس مع بعضها البعض، وتقضم من جمهور ناخبيها، تخدم نتنياهو واليمين الموحد حول زعيم واحد”. وفي السياق، يقول (يوفال شتاينتز) عضو الكنيست في “الليكود” الذي بدأ مسيرته في مجال النشطاء كداعية سلام، ثم انتقل إلى اليمين في منتصف تسعينيات القرن الماضي، أن “فشل اتفاقات أوسلو كان له إرث دائم. الآن، معظم الإسرائيليين محبطون للغاية – لقد حاولنا تحقيق السلام. لكن بدلا من السلام حصلنا على الإرهاب. لقد أيدت عملية السلام، لكن اتضح لي أن هذه ليست عملية سلام، إنها عملية حرب”. من جانبه، يقول الكاتب الفرنسي (بيوتر سمولر) في مقال نشرته صحيفة “لوموند” الفرنسية: “اليسار الإسرائيلي يعاني. مرشحوه يفتقرون إلى برامج واضحة قادرة على أن تتفوق على برامج أحزاب اليمين الحاكم، وذلك باستثناء حزب ميرتس”! ويضيف: “نتنياهو سعى إلى الفوز بولاية خامسة من خلال عرقلة حركات المعارضة”. وفي المقابل، يقدم الكاتب والباحث (عساف شارون) نظرة متفائلة نسبيا: “صحيح أنه تم التشهير بأحزاب اليسار، لكن الواقع لم يتغير، حيث لا يزال 80% من الإسرائيليين يؤيدون مواقف اليسار فيما يتعلق بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية، في حين تعارض الأغلبية الساحقة هيمنة الحاخام، وتنادي أغلبية ثابتة بضرورة إبرام اتفاقية سلام مع الفلسطينيين”.
وتحديدا، بخصوص “حزب العمل” التاريخي، وفشله الذريع بعد حصوله على 6 مقاعد في انتخابات الكنيست، قال زعيمه (آفي غباي) إنه “يدرس الاستقالة من منصب رئيس الحزب بعد الفشل في الانتخابات”. لكن سكرتير حزب العمل (عيران حرموني) أدلى بتصريحات إلى وسائل إعلام أكد فيها: “إن على أقطاب آخرين من الحزب أن يحذوا حذو غباي. المسألة ليست شخصية لكن لا يمكن إنكار الهزيمة التي مُني بها الحزب وموقعه الحرج ولذا لا مناص من استقالته”. وعليه، قال المرشح الثاني في قائمة حزب العمل اللواء احتياط (طال روسو) إنه “يدرس إمكان الانسحاب من الحياة السياسية في إثر الهزيمة”.
وفي سياق تحليل أسباب تراجع اليسار وعلى رأسه حزب العمل، يقول (نيتسان هوروفيتز) عضو “ميرتس”، الذي ضغط من أجل توحيد الأحزاب اليسارية، إلى أن “الخلل الوظيفي هو أحد أعراض المشكلة الأكبر – فالحزب واليسار ليسوا واثقين في أنفسهم وفي مواقفهم”. وأضاف: “نجح نتنياهو في نزع الشرعية عن اليسار، ووسائل الإعلام، والقضاء، وما يسميه النخبة الليبرالية. واليسار ليس منظمًا بما فيه الكفاية ولا يتم تمويله بما يكفي لتحدي هذه الحملة المستمرة منذ فترة طويلة”. أما (موشيه يعلون) رئيس أركان الجيش المتقاعد وأحد قياديي حزب “أزرق/ أبيض” فيقول: “لقد أصبح اليساري كلمة قذرة الآن، شكلاً من أشكال التحريض”. من جهته، قال (موشيه كوبل) مؤسس “منتدى كوهيلت للسياسات” الذي يتخذ من القدس المحتلة مقرا له وهو مركز محافظ: “لقد انهار (حزب) العمل لأسباب متنوعة، ولكن في الغالب كان لديهم دعم تراثي – أناس كانوا موجودين عند إنشاء الدولة – وأولئك الذين سيصوتون للعمال بغض النظر عن السبب، فهم ماتوا حرفياً”. وفي السياق، لربما يتجسد أبلغ ما قيل في استخلاص موقف رئيس حزب العمل الأسبق (أبراهام بورغ) الذي رأى أن هذا الحزب قد انتهى، داعيا إلى “إخلاء حزبي العمل وميرتس من الساحة الحزبية وإقامة شيء جديد وشاب مكانهما”. وشبّه (بورغ) الذي تولى منصبي رئيس الكنيست ورئيس الوكالة اليهودية أيضا، حزب العمل “بحيوان أليف جرى دهسه في طريق عام”.
والحال كذلك، يبدو أن “اليسار” الإسرائيلي أصبح بلا حيلة! فاللعبة السياسية قد باتت في يد اليمين بفروعه المتعددة. وفي الأدبيات الإسرائيلية المتكاثرة، وعلى مدى عدة سنوات، يتناول عديد الكتاب والمحللين أزمة “اليسار” في إسرائيل، معيدين السبب في تراجعه وتعاظم قوة اليمين إلى التغيرات الديمغرافية والإثنية ممثلة في تعاظم قوة “المهاجرين الروس”، و”الشرقيين والمتدينين بشقيهم الصهيوني واليهودي الحريدي”، وفشل اليسار في اختراق تجمعاتهم التي خضعت لتأثير اليمين المتطرف. كما جرى استخلاص عوامل بارزة أخرى منها: الإنجراف السياسي المجتمعي نحو مختلف أنواع اليمين الإسرائيلي، وكذلك ولاء “اليسار” لعملية سلام إسرائيلية فلسطينية فاشلة، علاوة على الاقتصاد المزدهر الذي نجحت في تحقيقه حكومة (بنيامين نتنياهو). وفي الأثناء، يحذر كتاب وسياسيون إسرائيليون عديدون من عواقب تراجع “اليسار” وإلى فترة غير قصيرة قادمة: فالمجتمع الإسرائيلي بات في مرتبة عالية من درجات الغلو والتطرف، رافضا “للحل السلمي” مع الفلسطينيين ومنحه أيا من حقوقه الوطنية والتاريخية، ومؤمنا بأن اليمين المتطرف هو القادر على أخذه إلى بر الأمان وتحصينه من خلال قوانين الكنيست الأخيرة الأكثر تطرفا في تاريخ “إسرائيل”، وأن الديموقراطية لم تعد أمرا ذو قيمة. هذا عن اللحظة السياسية الراهنة، لكن هل ينجح ويدوم مثل هذا الوضع في ظل حركية شديدة يتمتع بها المجتمع السياسي الإسرائيلي، و”خير” مثال على ذلك الصعود المفاجئ والسريع للغاية لحزب “أزرق-أبيض” من حزب غير موجود قبل أشهر إلى حزب تساوى تقريبا في عدد أعضائه في الكنيست مع الحزب التاريخي: الليكود؟