محمود السمرة: نفتقد سحرك

في المستوى الشخصي، لا أعلم إن كان ذلك الرجل المعتدلة مناخاته، الهادئة بحاره، النادرة عواصفه، العليلة نسماته، قد جاء إلى هذه الدنيا تحت قوة تأثير مجرات وأفلاك لها علاقة بتاريخ ميلاده الربيعي في العشرين من نيسان/ إبريل 1923! فهذا الإنسان/ العالم، المنعشة صحبته، المحببة طباعه، الرقراقة كلماته، المتناغمة مواقفه، الدافئة علاقاته، الحنطية سمرته، المحمودة أخلاقه، هو الذي عرفناه، وفق شهادة ميلاده، باسم: “محمود السمرة” ثم عرفناه يوم وفاته باسم معالي الأستاذ الدكتور محمود السمرة.

لقد تدرجت علاقتي مع د. السمرة صاعدة، تباعا، إلى واحدة من قمم العلاقات الإنسانية: من “علاقة قرائية” حيث كنت أقرأ مقالاته (يوم كان نائبا لرئيس تحرير مجلة “العربي” الكويتية ذائعة الصيت) إلى “لقاء تعارفي” حين أكرمني بزيارتي (إثر الإفراج عني من السجون الإسرائيلية في نهاية العام 1968) إلى “زمالة لاحقة” حيث شاركته (وأستاذ الأجيال محمود العابدي في وضع كتاب عن القضية الفلسطينية)، إلى صداقة شخصية مع ازدياد ترددي على الأردن (وبالذات منذ أصبحت أستاذا بجامعة الكويت) ثم إلى “علاقة قرابية” (حين أسفرت كل هذه العلاقات عن زواجي من كريمته ميّ في العام 1983). وبذلك، صعدت علاقتنا من “معرفة عن بعد”، إلى “معرفة عن قرب”، إلى “زمالة أكاديمية”، إلى “صداقة شخصية”، ثم إلى “قرابة نسب”، ثم أصبح “أخي الذي لم تلده أمي، قبل وبعد أن أصبح “عمي” الذي لم تلده جدتي، لكنه دوما، بقي: أخي الكبير بكل المعاني، خاصة وأنه لا أخ أكبر لي… أنجبته والدتي.

في المستوى العام، لطالما كنت –مع كثيرين غيري- متفقين على أن المرء يسعى، بشغف، إلى مجالسته طالما أنه قد سمع عنه، أو حظي برؤيته والحديث معه في مرة سابقة. سحره يدفعك، حثيثا، إلى ذلك… إلى معاودة اللقاء به. فالواحد منا لا يجد، كل يوم، نموذجا للإنسان الإنسان، ومثالا للعالم العالم، ولقد كان الأستاذ الدكتور محمود السمرة (أبا الرائد) ذلك النموذج. والمرء لا تكتمل إنسانيته، ولا علمه، إلا بالتواضع الحق والحقيقي، والعطاء المجتمعي غير المحدود، وهذا – لعمرك – حال (أبا الرائد)… واسألوا عن عطائه أقطار العرب وبالذات فلسطين والكويت والأردن. اسألوا عنه تلامذته وطلبته الذين احتلوا أعلى المراتب في الجامعات وفي المجتمع ولا يزالون.

يضيء تواضع د. السمرة مجلسه! فأنت فور استقبالك من قبل (أبي الرائد) ستلاحظ أنه قد اتخذ وضع المستمع لا المحاضر، الجاهز تماما لمعرفة ما تود طرحه، المشجع لك على صراحة القول. وفي هذا بعض من سحره، بخاصة وأنك قد مللت مجالسة أصحاب المعرفة المتواضعة، بل والمتواضعة جدا، الذين يتخذون –حينا- وضع “الجنرال” أو حتى “المشير” وهم لم يقتربوا يوما من الممارسة العسكرية! وهم يتخذون –حينا آخر- وضع “المفكر” الذي ليس لم يأت يوما بفكرة مبتكرة، بل أنه حتى لم يستوعب مثل هذه الأفكار  لو هو استمع إليها. ويتخذون –حينا ثالثا- وضع “السياسي” الجهبذي الذي يقصفك بتحليلات، لا بل “بمعلومات”، لم تقل بها صحيفة محترمة، أو محطة تلفاز رصينة، أو “وسيلة” من وسائل الاتصال الجماهيري، ولم يتداولها سياسيون خبراء مجربون! وغير ذلك كثير من ممارسات ظاهرة “أبو العرّيف” المنتشرة في أوساطنا هنا… وهنالك!!!

بالمقابل، لم يتباه د. السمرة يوما بما هو جدير أن يتباهى به من علم غزير اختزنه، أو شهادات حصل عليها بتفوق، أو كتب وضعها ونالت شهرتها، أو محاضرات عامة أو محاضرات داخل الغرف الجامعية وفي كل المستويات الأكاديمية بما في ذلك منح شهادة الدكتوراة لطلبته، ناهيك عن إنجازات إدارية/ أكاديمية جعلته أحد أبرز مؤسسي الجامعة الأردنية (أم الجامعات) ولاحقا رئيسا لها، بعد صعوده من رتبة عميد لكلية الآداب، إلى نائب رئيس للشؤون الأكاديمية على طوال السنوات العشرين الأولى التي أرسيت فيها أسس تلك الجامعة. كذلك، لم يتباهى (أبا الرائد) بكل هذه الإنجازات وغيرها (مثل رئاسته لرابطة الكتاب الأردنيين، وتوليه وزارة الثقافة في المملكة الأردنية الهاشمية، وحصوله على عديد الأوسمة) بل إنه لم يتحدث يوما (مجرد حديث) عن أي من هذه. فالكبار تتحدث إنجازاتهم عن نفسها مثلما تتحدث هي عنهم مسجلة اعتزازها بعطائهم الكبير الصامت.

نفتقدك يا (أبا الرائد)، نفتقد عطاءك العلمي والمجتمعي، نفتقد تواضعك غير المسبوق، ثم نفتقد مناخاتك المعتدلة ونسماتك المنعشة وبحارك هادئة الموج، وفوق ذلك نفتقدك شخصيا ونفتقد شخصيتك الساحرة!

Dr.asad

كاتب وباحث عربي، ومحلل سياسي مختص في القضايا الفلسطينية وشؤون الصراع العربي الإسرائيلي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى