كيف، ولماذا، أضعنا طريقنا إلى لغتنا العربية؟
قبل نصف قرن أو يزيد، كان للمرحوم والدي زميلة تعمل معه في وزارة الشؤون الاجتماعية. وحين نزورها أو تزورنا، كنا نسمع منها كلمة إنجليزية واحدة على الأقل في كل “فقرة” من حديثها. يومئذ، كأطفال، نشأنا في بيت عروبي، لطالما استهجنا ذلك، لا بل اعتبرناه عجزا عن التحدث بالعربية أو نوعا من “التفلسف” أو “التعالي” غير المبرر..!
الآن، ومع الاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية، وبعد رؤيتنا وسماعنا بصورة متنامية لشريحة كبيرة من الناطقين بالضاد، ممن لا يكاد أحدهم يضع كلمة عربية واحدة في أي جملة أو عبارة يتحفنا بها؛ لكم بتنا نشتاق إلى تلك الأيام الخوالي، وكم صرنا نشعر أننا كنا مخطئين بحق تلك السيدة الفاضلة، التي ندين لها الآن بشتى آيات الإعتذار..! بل نحن نعترف سلفا أننا سواء في العائلة أو شخصيا، وقعنا في كل ما سبق وما سيلي من سلبيات وعيوب.
بداية، لا ننكر كون اللغة الإنجليزية بالذات قد غدت من ضروريات ومتطلبات العصر. فهي لغة العالم بلا جدال، وهي الأوسع انتشارا، كما أنها لغة العلم والتكنولوجيا. ومع الدوران الطبيعي لعجلة الحضارة، بات تعلمها متطلباً رئيسا لمن “تحاصره” منظومة العولمة، مثلما أصبح اتقانها حاجة لا مفر منها خاصة للذين يتطلعون إلى مستقبل أفضل، وحياة أرحب، في عصر هذه “الهيمنة اللغوية” إن جاز التعبير! ومع ذلك، لا نستطيع قبول مبالغة المبالغين في تجنب بل وهجر اللغة العربية!
لقد تجاوز بعض الأهالي نطاق “المعقول” فذهبوا إلى تعليم أبنائهم “الرطن” والتشدق بالإنجليزية على حساب لغتهم العربية، سواء من باب “التقليد” أو “الاعتياد” أو “الموضة”، أو من باب المباهاة والتفاخر و”البرستيج” و”الحداثة” و”التحضر”، مع المغالاة في ذلك بإسلوب استعراضي!! مثل هذا “التطور” هو بلا شك أمر سلبي وإسقاط نقص، ومرض مؤكد، وانسلاخ عن أصولنا، وجزء كبير منه يؤدي إلى تهميش لغتنا “الأم”، مما يورث الأبناء بالضرورة ضعفا مزمنا في اللغة العربية، ويورثنا – كمربين – خيبات أمل كبيرة! ومع الزمن، تصبح كلمات أبنائنا وحفدتنا بالعربية غير واضحة وغير صحيحة وغير مفهومة، في حين تصبح الإنجليزية التي يتحدثونها بطلاقة “لغتهم الأم” الإفتراضية. أما العربية فلا بواكي لها؛ إذ تستخدم عند الضرورة فقط، عند محادثاتهم مع كبار السن، أو مع من لا يتقن إلا العربية. بل إن عديد المحال باتت تقتصر يافطاتها على الإنجليزية، مثلما غدت نسبة متزايدة من الشركات الكبرى والمتوسطة، بل وحتى الصغرى، لا تعرف عن نفسها أو تعلن إلا بالإنجليزية، وبذلك، لم أعد أدري – بصدق – إلى أي درك انحدرنا، وإلى أي درك ذاهبة لغتنا العربية!
لقد حز في نفسي مشاهدة وصول الأمر أحيانا حد “التنافس” الشرس بين الآباء في تحقيق هذه الغاية. فمنهم من يبذل الغالي والنفيس في سبيل تسجيل أبنائهم في أفضل المدارس الخاصة التي تدرس كل موادها بالإنجليزية، ومنهم من يجلبون لأبنائهم مربية تتقن الإنجليزية لمخاطبتهم بها في المنزل وفي الأسواق والحواري، ومنهم من يحرص على محادثتهم بشكل دائم بها، ويصبح بالتالي من الصعوبة بمكان عليهم التحدث بالعربية أو الإنفكاك من الإنجليزية بحكم البيئة الضيقة المحيطة، ويصبحون كأنهم “أجانب” وهم عربيو الوجه واليد واللسان. أيضا، الأفلام التي يشاهدونها، والألعاب الإلكترونية، وماركات الملابس التي يرتدونها كلها بالإنجليزية، لدرجة أن هناك فئة من هؤلاء الشباب يقصون من “شلتهم” كل من لا يجيد التحدث بالإنجليزية ويتجنبونهم، لأنهم ليسوا على استعداد أن يماشوا من يعتبرونه “غير منتم للعصر الحديث”، في “ظاهرة” غريبة وسلبية. وللأسف، مثل هؤلاء الآباء الذين يتباهون باتقان أبنائهم للإنجليزية، لا يملكون الجرأة للإعتراف بأن أبناءهم لا يعرفون العربية… فيا (فضيحتاه!)”.
لست أدري بدقة ما هي أسباب هذه المبالغات في التشدق بالإنجليزية..؟ هل لأن العالم أصبح “قرية” كما يقولون؟ هل هي الهيمنة اللغوية سالفة الذكر؟ هل هو التغير الاجتماعي وتصدير الثقافات وعدم وجود استراتيجيات تربوية عصرية وتقدمية تمضي إلى تعميق الإفتخار الرشيد (وليس التباهي الأحمق) بتاريخنا ولغتنا العربية، أم لأن الأسر غدت تهتم بتعليم وتحفيظ أبنائها الإنجليزية كمتطلب حياتي على حساب العربية؟! أم أن كل ذلك يأتي نتيجة لتقهقر ثقافتنا وتراجع الاهتمام بها على عديد المستويات بحكم واقع الحال المرير الذي نعيشه؟! أم هي عقد النقص والشعور بالدونية التي تدفع بالبعض للبحث عن “وسائل تميز” أم هو سعي للاستعلاء على الآخرين..؟! أم هو جميع أو معظم ما ذكر…؟؟!! لعلنا من خلال هذه الأسئلة نفتح أبواب النقاش بخصوص هذه القضية الجوهرية، فأفيدونا، أفادكم الله.