إضاءات ضرورية على “المحكمة الجنائية الدولية” (1-2)
أثار التهديد والوعيد الأمريكي على لسان مستشار البيت الأبيض للأمن القومي (جون بولتون) “للمحكمة الجنائية الدولية” الشجون والأسئلة عن طبيعة هذه المحكمة، مشددا على أن بلاده ستستخدم “كل الوسائل لحماية مواطنيها من المحكمة ومن تعديها على السيادة الأمريكية”، بل إنه هدد بفرض عقوبات على قضاة “المحكمة” الدولية ومدعيها العامين إذا لاحقوا أميركيين أو إسرائيليين أو حلفاء آخرين للولايات المتحدة!!!
ما هي هذه المحكمة؟ وما اختصاصاتها؟ وما هي العوامل التي جعلت بعض الدول المهمة تخشاها؟ وهل هي حقا “ترعب” الولايات المتحدة الأمريكية؟ ثم هل إن هذه “المحكمة” قادرة على توفير العدالة ومنع وقوع انتهاكات على امتداد الساحة الدولية؟
بعد الدفعة القوية للنظر في الجرائم ضد الإنسانية في محكمة “نورنبيرغ” التي تأسست لمعاقبة جرائم متهمة بها الأطراف الخاسرة في الحرب العالمية الثانية، بدأت مساعي إنشاء محكمة جنائية دولية لكنها سرعان ما تجاهلها الجميع تحت وطأة الحرب الباردة التي جعلت تأسيس هذا النوع من المحاكم أمراً غير واقعي من الناحية السياسية. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، قامت الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1992 بتكليف “لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة” إعداد مشروع النظام الأساسي لإنشاء “المحكمة الجنائية الدولية”. وفي عام 1994، قدمت “اللجنة” للجمعية العامة مشروع النظام الأساسي للمحكمة. وبعد عدة اجتماعات، عقد في روما في العام 1998 مؤتمر أثمر إقرار “الميثاق الأساسي” للمحكمة بعد أن صوتت لمصلحة إنشاء “المحكمة الجنائية الدولية” (120) دولة، وامتنعت (21) دولة، في حين عارضت إنشاء هذه المحكمة (7) دول من بينها الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل. وقد اعتبر النظام الأساسي للمحكمة أن القرن العشرين شهد “جرائم خطيرة تهدد السلم والأمن العالمي لا يجوز أن تمر دون عقاب”. وبذلك، وفي الأول من تموز/ يوليو 2002، تأسست “المحكمة الجنائية الدولية” بصفة قانونية بموجب “ميثاق روما”، كان على رأسها المدعي العام للمحكمة المحامي الأرجنتيني (لويس مورينو اوكامبو)، الذي خلفته لاحقا المحامية الغامبية (فاتو بنسودا). وبالمناسبة، فإنه يقع أحيانا لبس بين “المحكمة الجنائية الدولية” وبين “محكمة العدل الدولية”. فالثانية ذراع تابع للأمم المتحدة يهدف لحل النزاعات بين الدول، أما الأولى فتعد هيئة مستقلة عن الأمم المتحدة، تقتصر سلطتها على الجرائم التي يرتكبها الافراد: الإبادة الجماعية، الجرائم ضد الإنسانية، جرائم الحرب، جرائم العدوان.
قبل الحديث عن موقف الولايات المتحدة، هناك دول كبرى ومتوسطة أخرى رفضت أيضا التوقيع على “الميثاق” أهمها الصين والهند. ولقد رفضت الصين التوقيع بدعوى أن “المحكمة” تناقض سيادة الدول الأعضاء وتعطي مبدأ القدرة على الحكم على النظام القضائي في الدولة العضو، وأن حق الإدعاء في بدء ملاحقات قد يفتح المحكمة للنفوذ السياسي، وغيرها، لكن ربما أهم سبب في استنكاف الصين عن التوقيع هو أن حق المقاضاة في جرائم الحرب يغطي كلا من الصراعات الداخلية والدولية، بمعنى أن مسألة حقوق “الإيغور” – الشعوب التركية التي تشكل واحدة من 56 عرقية في جمهورية الصين الشعبية – يمكن طرحها في “المحكمة”. كذلك، عارضت الهند ما أسمته التعريف المطاط لمصطلح جرائم ضد الإنسانية، والحق المعطـَى لمجلس الأمن لإحالة قضايا ولتأخير التحقيقات ولإلزام دولة غير عضوة، وغيرها. لكن القلق الأكبر الذي أدى لاستنكاف الهند عن التوقيع يكمن في ذات النقطة بالنسبة للصين ألا وهي تضمين صراعات غير دولية – مثل كشمير – في تصنيف جرائم حرب. وفي السياق، يأتي قرار إيقاف الاتحاد الروسي مشاركته في “ميثاق” روما، وهو القرار الذي وقعه الرئيس الروسي (فلاديمير بوتين) في العام 2016، بهدف حماية القادة الروس العسكريين والجنود الذين يحاربون في العديد من بلدان العالم، وعلى رأسها سوريا، من الملاحقة الجنائية. أما الدافع الثاني فهو تخوف روسيا من استخدام “المحكمة” ضدها في بعض القضايا والنزاعات السياسية كقضية شبه جزيرة القرم وأوكرانيا.
أما قصة الولايات المتحدة فمختلفة تماما. فمنذ ما قبل إنشاء “المحكمة”، وجدنا الإدارة الأمريكية تحاول عرقلة صدور “الميثاق”، لأن “المحكمة” تحد كثيراً من قدرة الولايات المتحدة على “التصرف الأحادي” الذي تراه ضرورة للأمن الأمريكي. لذلك، وجدناها تسعى إلى إفراغ “المحكمة” من مضمونها من خلال منح كل الأمريكيين حصانة تامة تعفيهم من الخضوع لولاية هذه المحكمة مهما ارتكبوا من جرائم دولية كبرى ينجم عنها مئات الآلاف من الضحايا كما حصل ويحصل الآن في العراق وأفغانستان. وفي سبيل ضمان عدم نيل “المحكمة” أياً من الرعايا الأمريكيين الموجودين خارج الأراضي الأمريكية، سواء أكانوا من المدنيين أم الدبلوماسيين أم العسكريين؛ تم التفاوض لإبرام اتفاقات ثنائية بغرض منع تسليم المواطنين الأمريكيين للمحكمة، بل إن الولايات المتحدة سعت إلى ترسيخ موقفها المعارض “للمحكمة” ضمن إطار التشريع الوطني الداخلي، وهو ما تجلى بإصدار ما بات يعرف بقانون حماية أعضاء القوات المسلحة الأمريكية (ASPA). ويمثل هذا القانون الموقف الرسمي للولايات المتحدة إزاء “المحكمة الجنائية الدولية”: أوّلاً: حظر جميع أشكال التعاون الأمريكي مع “المحكمة”. ثانياً: الحد من مشاركة القوات المسلحة الأمريكية في بعض عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. ثالثاً: حظر إحالة أي وثائق إلى “المحكمة” تتعلق بالأمن القومي. رابعاً: حظر تقديم أيّ مساعدة عسكرية لأغلب الدول التي صدّقت على “ميثاق” روما.
ويبقى السؤال المرتبط بفلسطين! لماذا “رفضت” منظمة التحرير الفلسطينية التوقيع على ميثاق “المحكمة الجنائية الدولية”؟ ولماذا عادت فمهرته بتوقيعها؟ وما هو “سر” الموقف الحالي للإدارة الأمريكية، في عهد الرئيس (ترمب) تحديدا، من هذه “المحكمة” وخصوصا بما يتصل بالقضية الفلسطينية وبالمواقف الجديدة لمنظمة التحرير.