إسرائيل وفلسطين: احتلال الذاكرة بعد احتلال الأرض؟
رغم مرور 70 عاماً على “النكبة”، والمقارفات والفظاعات الإسرائيلية المتتالية، والسيطرة الكاملة على مساحة فلسطين التاريخية، فإن ذاكرة الفلسطينيين – المتوارثة عبر أجيالهم – ما تزال نابضة برسمة فلسطين التي عجزت خرائط إسرائيل الصهيونية ومستعمراتها/ “مستوطناتها” عن تغيير ملامحها. ففلسطين الـ 27 ألف كيلومتر مربع ما زالت ثابتة في ذاكرة ووعي الفلسطينيين، وهم مرتبطون فكريا ووجوديا بكل شبر من هذه الأرض.
مؤخرا، صدر كتاب “لمعاينة الجمهور: الفلسطينيون في الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية” للباحثة في “التاريخ البصري” الدكتورة (رونة سيلع)، كشف عن طرق سلب ونهب الصهيونية لمجموعات كبيرة من صور فلسطينية قبل النكبة وبعدها، بما يؤكد أن إسرائيل تعد بقوة لاحتلال الوعي والذاكرة لدى الفلسطينيين. الكتاب يرصد الطرق التي اتبعتها الأجهزة العسكرية في إسرائيل، وقبلها الحركة الصهيونية، لجمع وحفظ المعارف والمعلومات البصريّة، والأخرى المتعلقة بالفلسطينيين، على مدار القرن العشرين الماضي، وكيفية سيطرة الأرشيفات العسكرية على هذه المعارف وإدارتها إدارة كولونيالية، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وعلى نحو أفدح مما مارسته قوى الاستعمار الحديث. ويبين الكتاب كيف ترتبط غالبية المعلومات والمعرفة بخصوص الفلسطينيين في الأرشيفات العسكرية بتدابير متنوعة من النشاطات الاستخباراتية لغايات عسكرية، وما واكبها من سلب قامت به جهات عسكرية رسمية من أرشيفات ومجموعات تتبع لمؤسسات وبيوت خاصة، وجنود وشهداء وأسرى، وحتى نسخ المعلومات سراً وجمع المعلومات المتعلقة بالفلسطينيين وبلداتهم لغايات السيطرة والاحتلال.
الدولة الصهيونية وإن كانت “ناجحة” في عملها في الحيز الجغرافي عبر السيطرة على الأرض وبناء المستعمرات/ “المستوطنات”، إلا أنها لا تنجح في حيزي الوعي والذاكرة، وهي السياسة التي بدأتها منذ قيامها عبر محاولات غسل الدماغ ليغير معها الفلسطيني أفكاره أو مدركاته في موضوع ما من الإيجاب إلى السلب أو من السلب إلى الإيجاب، وعبر تشكيل قناعات وسياسات جديدة تنحرف عن الهدف الأصلي وتقزمه وصولا إلى قناعات متفقة أو غير متعارضة مع شروط إسرائيل، أو ضمن سقف تقبل به.
لقد راهنت الدولة الصهيونية على تآكل الذاكرة الفلسطينية وتلاشيها، لكن “الذاكرة ليست الماضي”، بل هي الوعي بالتاريخ والجذور والهوية، وإدراك الخصوصية، وهي أيضاً الوعي بالذات بما يتصل بالواقع وينفتح على المستقبل. ومهما كانت قوة الدولة الصهيونية كقوة احتلال تجهد لخلق وقائع جديدة على الأرض عبر خطط وقوانين عنصرية، فإن الوقائع والأحداث تثبت فشلها في احتلال الوعي الفلسطيني، وأن كل محاولات هذه “الدولة” المستمرة في طمس الهوية الفلسطينية وسرقة الأملاك والحقوق والثروات لم تنجح حتى اللحظة. فما يزال هناك شيوخ يتذكرون، وأطفال ورثوا عن أجدادهم تلك الذاكرة الحامية للوعي الفلسطيني. وفي هذا السياق، تأتي أهمية كتاب (سيلع) في توثيقه الذاكرة الفلسطينية ليس لمجرد حفظها بل أيضا في سياق الصراع الوجودي مع الدولة الصهيونية، وقدرة الرد على الرواية الصهيونية المزعومة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، عبر تسجيل كل أشكال وأنماط ومظاهر الحياة الفلسطينية الاجتماعية والفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية. وانطلاقا من هذا، وبالعمل النضالي الثقافي، ستنجح الذاكرة الفلسطينية لا محالة في مواجهة كل المحاولات الإسرائيلية/ الصهيونية الهادفة إلى القضاء عليها أو تزييفها.