“ثقافة التبرع”: أين نحن منها؟؟
التبرع هو “هدية” مقدمة من أفراد أو جهات على شكل مساعدة إنسانية لأغراض خيرية. ويمكن للتبرع أن يكون نقدياً على شكل صدقات، أو خدماتيا من نوع التعليم والتدريب والعمل التطوعي، أو عينياً بما في ذلك الطعام والملابس والألعاب وغيرها، وقد يكون طبياً كما في التبرع بالدم أو بالأعضاء أو بالخلايا الجذعية… إلخ. والتبرع نوع من أنواع الإحسان وفعل من أفعال الخير ويعد من أفضل الفضائل، ويدعو إليه الكثير من الناس من منطلق ديني و/ أو إنساني. وللتبرع ثقافة. وفي كل التعريفات والتوصيفات، تعتبر “ثقافة التبرع” دليلا على نضج المجتمع المدني الذي هو المسؤول الأول (بعد الإعلام والتعليم والتربية العائلية) عن ترسيخ الوعي للمساعدة والتبرع للمحتاج، ومن ثم المساهمة في بناء وطن متكافل ينعم بعدالة اجتماعية مشتركة.
لقد حاولت الأديان السماوية جاهدة نشر “ثقافة التبرع” مشجعة ومعززة لكل أنواع البر والصدقة والإنفاق التي تدعم صور التكافل الإجتماعي والتكاتف والتضامن بين كل فئات المجتمع، الغنية والفقيرة، سعيا لجعل المجتمع إطارا متجانسا تتوافق كل شرائحه على إعماره. فالمال، ابتداء وفي كل الأديان، هو “رزق الله” قسمه للغني ونهاه عن الإسراف والتبذير فيه، لما للتبذير من نشر للسلوكيات الخاطئة وإفساد للذائقة الإنسانية وبذرة تفريق بين طبقات المجتمع. والشاهد أن الدين قرن المبذر بالشيطان (رمز الكفر بالنعمة والجحود بها) فيقول تعالى: “وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا”. ويقول أيضا: “إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين، كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم”. ومن جهته، يؤكد سيدنا عيسى عليه السلام على ضرورة التبرع والبذل بما زاد على حاجة الإنسان، لتكون ممارسة محمودة عند أتباعه، حتى أنهم في دعائهم لا يطلبون سوى ما يقيتهم، حيث يقول (ع) في دعاء له: “خبزنا كفافنا أعطنا اليوم”. وفي السياق، معروف أن الديانات السماوية رهبّت من كنز المال وشح الأنفس إذ قال تعالى: “والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم”. فهذا المال هو مستبقى ومودع عند الغني ليقضي حوائجه به دون أن ينسى الفقير، والذي من خلاله يزكي ويطهر نفسه وماله بما يؤدي منه. فيقول تعالى: “خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها”. ويحذر سيدنا عيسى أيضا من كنز المال، ويوجه رعيته إلى تخزين العمل الصالح بدل المال الذي يتلف، حين يقول: “لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض حيث يُفسِدُ السوس والصّدأ وحيث ينقب السارقون ويسرقون. بل اكنزوا كنوزا في السماء”.
ومع أن تاريخنا العربي يشهد على مجلدات زاخرة وحافلة بالتبرع والعطاء، وعلى الرغم من أن “ثقافة التبرع” باتت ضرورة ملحة في هذا العصر الذي يشهد أفول الدولة الريعية وارتفاع التكاليف والكلف (وهو ما لا تستطيع الدولة وحدها تغطية احتياجاته) إلا أن واقعنا الحالي يفتقد بشدة لهذه الثقافة لأنها – من أسف شديد – انحسرت ولم تتأصل في مجتمعاتنا العربية على النحو المنشود كما حصل في غيرها من المجتمعات الغربية، التي باتت مترسخة لديها كثقافة مغايرة. ونحن عادة ما نسمع بين الحين والآخر، عن غربي قدم بلايينه أو ملايينه لبلده أو لصالح الإنسانية، مثل بيل غيتس وزوجته ميلندا، ووارن بافيت الذي منح جزءا كبيرا من ثروته (30 مليار دولار) إلى مؤسستهما الخيرية التي تحمل اسميهما، للمساعدة في مواجهة عدم المساواة في العالم. وكان بافيت متواضعا جدا، ولم يصر على اظهار اسمه معهما، ولم يعط أية توجيهات بشأن تبرعاته، قائلا: “أنا جيد في جمع المال وليس في توزيعه، هذا دوركم”، وهو الذي أعلن أيضا أنه سيتبرع بـ 99% من ثروته عند وفاته للأعمال الخيرية وغيرها.
أما في عالمنا العربي المسلم فيبدو، وباستثناء من يلتزم بأداء الزكاة أصوليا، أن ضعف روح المبادرة (التبرع) أدى إلى قلة أعداد وتنوع المؤسسات الخيرية وضعف فعالياتها. فالتبرعات لدينا ما زالت موسمية وترتبط بالمبادرات الدينية والوطنية أو الدولية والأيام العالمية المخصصة لبعض الحاجات الاجتماعية الملحة، وغالبا ما تعاني من ضبابية في الرؤية وفقدان بل توهان لبوصلتها!، ومع ذلك، فإن من بين الذين عرفتهم عن كثب جيلا فلسطينيا وعربيا ينطوي على المسلم المؤمن الذي يتبرع (لصالح الوطن وعباد الله) بأكثر من نصف دخله، والمسيحي المؤمن الذي لا يعرف لفظة “لا” في تبرعه، والعلماني الذي وجدته عميق الإيمان بقيم حميدة على رأسها الكرم! ولهؤلاء جميعا كل الاحترام والتقدير، مع عميق التمني بانتشار نموذجهم بحيث تتوسع قاعدة المتبرعين إلى درجة يمكن أن نقول معها أن “ثقافة التبرع” عند المسلمين والعرب (ومن ضمنهم المزيد من الفلسطينيين) قد أصبحت تقتدي بالغرب “الكافر” وبالصهيوني الفاجر (مثل موسكوفيتش وأديلسون)!!