على “درب الآلام” الفلسطيني: حصاد “مسيرات العودة”

تزامن عيد الفصح وما تضمنه من “مسيرة” السيد المسيح (الفدائي الفلسطيني الاول) على “درب الآلام” مع “مسيرات العودة” التي باشرتها جماهير فلسطينية (بدء من “يوم الأرض” 30/3 وصولا إلى منتصف أيار ذكرى النكبة السبعين) منطلقين من أعماق سجنهم الكبير في قطاع غزة وفي مناطق الاحتلال، تحت شعار “التمسك بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين”. و”مسيرات العودة” هذه ليست مجرد زوبعة في فنجان، وانما هي سيل بشري عارم دشنها أهلنا الفلسطينيون في غزة (حيث كان الزخم الأكبر) وأيضا في الضفة الغربية والقدس وداخل ما يسمى “الخط الأخضر” ومخيمات اللجوء والشتات بما زاد عن (20) شهيد واكثر من (1700) جريح ومصاب في أسبوعها الأول، لترتفع حصيلتهم بعد أحداث الجمعة الثانية (جمعة الكوشوك) باضافة (10) شهداء واكثر من (1354) اصابة منها (491) بالرصاص الحي والمتفجر لا زال (33) منها بحالة خطيرة. وهؤلاء المكافحون قد قالوا كلمتهم وبـ”الأحمر القاني”، لافتين الأنظار إلى أوضاعهم والى قضيتهم المركزية وما يجري التحضير لها فيما بات يعرف بـ”صفقة القرن”، وإلى قضية لاجئيهم ومحاولة الإدارة الأمريكية إضعاف دور وكالة غوث اللاجئين (أونروا) التي تمثل بعدا كيانيا رمزيا لقضية اللاجئين الفلسطينيين. وقد اعتبر المراقبون هذه المسيرات رد الفلسطينيين السياسي والشعبي المدوي وقرارهم التمسك بوطنهم كاملا وبجمر قضيتهم وحقهم بالعودة، وأنهم لم ولن يستكينوا للواقع المتردي والمأساوي الذين يعيشونه، ولن يستسلموا لليأس ولقبول ما يعرض عليهم من فتات حلول سياسية لا تلبي الحد الأدنى المتفق عليه فلسطينياً وعربياً ودولياً.

في السياق أعلاه، ووفق ما تجلى في الأدبيات السياسية المختلفة ومن ضمنها الإسرائيلية، أظهرت مسيرات الأسبوعين الأولين عدة حقائق ومكاسب فلسطينية (مرهونة نتائجها ومفاعيلها النهائية بالقوى الوطنية الفاعلة وطرائقها في استثمار هذه المكاسب). ومن أبرز هذه الحقائق والمكاسب:

أولا: أن القضية الفلسطينية – رغم كل المحبطات- حية ونابضة في قلوب ووجدان وعقول الفلسطينيين.

ثانيا: التمسك بالعلم الفلسطيني، دون غيره من أعلام، أظهر انحياز الشعب الفلسطيني – رغم تعثر المصالحة للآن على الأقل-  للوحدة الوطنية ورفض ونبذ الانقسام واقصاء كل من يذكي نيرانه، وتأكيد محورية إيجاد قيادة ميدانية موحدة تبتعد عن تجيير المسيرة لمصالح فئوية وحزبية وفصائلية.

ثالثا: استعادة زخم النضال الشعبي الجماهيري السلمي الواسع والجامع، حيث ارتدت الفصائل الفلسطينية زيًا جديدًا من الثورة الشعبية رغم محاولات إسرائيل جرها إلى اشتباكات مسلحة تحررها من ورطتها الأخلاقية والسياسة والإعلامية، وهذا النوع من النضال الجماهيري السلمي هو الذي يحرج إسرائيل ويضعها في الزاوية ويجعل ردود فعلها العنيفة والدموية مثار تنديد على الساحة الدولية.

رابعا: إعادة تذكير المجتمع الدولي بكون إسرائيل كيان غاصب غير شرعي، قام على حساب سلب أرض وتشريد شعب فلسطين العربي.

خامسا: تحفيز دول ومنظمات إقليمية ودولية (علاوة على إحراج بعض الدول التي اضطرت ولو على استحياء) لإدانة القمع الإسرائيلي والمطالبة بتحقيق دولي في عمليات إطلاق النار بصورة كثيفة ضد متظاهرين عزل يعبرون عن حقوقهم المسلوبة والمصادرة.

سادسا: إعادة القضية الفلسطينية “المهمشة” إلى الرادار العالمي وصدارة أجندة الاهتمام الإقليمي والدولي، واخراج المجتمع الدولي من لامبالاته.

سابعا: إلقاء الضوء مجدداً على المأساة والأزمة الإنسانية التي يعيشها قطاع غزة المحاصر، وتحويل حدوده الشرقية والجنوبية والشمالية لمراكز احتكاك جديدة بين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي، وكذلك لفت الأنظار بقوة إلى العقوبات المتنوعة على القطاع والسعي من أجل رفعها أو –على الأقل- تخفيفها.

ثامنا: إثارة التباين والاختلاف لدى القوى والأحزاب والشخصيات الإسرائيلية جراء طريقة معالجة أحداث المسيرات وردود فعل الجيش بالقوة المفرطة ضد المتظاهرين المسالمين. ولقد تركز التباين هنا على أكذوبة “أخلاقيات الجيش الإسرائيلي” إذ هو يتحول إلى “جيش قتل” بدلا من “جيش الدفاع” المزعوم.

تاسعا: فتح باب الجدل –على مصراعيه من جديد- بشأن مسألة تجاهل الحاجة لحل سلمي للصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، ومحاولة إسرائيل والولايات المتحدة إسدال الستائر على إرث مسيرة القضية والمرجعيات والقرارات الدولية ذات الصلة.

عاشرا: رفع الكلف والتكاليف المادية المالية الإسرائيلية نتيجة عمليات إعادة التجنيد، ونشر قوات الجيش، والأمن، والدفاع المدني بمختلف قطاعاته.

أحد عشر: إفساد “بهجة” الأعياد الإسرائيلية (أعياد “بيسح”.. الفصح اليهودي) في أوساط قطاعات متزايدة سواء في الجيش الإسرائيلي الذي تم تحشيده وعند أهالي الضباط والجنود وغيرهم من سكان المستعمرات/ “المستوطنات” على طول حدود غزة وفي عدة مناطق في الضفة.

وبعد، النضال الشعبي الجماهيري على قاعدة “اللاعنف” بات واحدا من أفعل أشكال الكفاح الراهن والمستقبلي الفلسطيني (طبعا دون إلغاء الحق بالكفاح المسلح) حيث سبق وأعطى ثماره في تجارب عديدة ماثلة للعيان سواء في الهند أو جنوب إفريقيا وغيرهما. وهذا التطور يستدعي من قوى الشعب الفلسطيني النهوض بأدائها عبر التفاعل الواعي مع هذه المسيرات لأغراض الدعم والمساندة، مستفيدة من حقيقة أن الكفاح الشعبي الفلسطيني غير المسلح، سيجعل من لجوء إسرائيل إلى تفوقها العسكري فاضحا لطبيعتها العنصرية، ومؤكدا على أن الإنتصار –في نهاية المطاف- ليس للمحتل المستبد وقوته العمياء، وانما لصاحب الحق المصمم على حقوقه باذلا دونها التضحيات، ولوعي ودور القوى الوطنية الفاعلة في المواجهات الهادفة. ومع الألم على فداحة الخسائر البشرية الفلسطينية، فإن تحقق هذه المكاسب الصلبة فيه عزاء وتأكيد على أن “للحرية الحمراء باب، بكل يد مضرجة يدق”!