القضية الكردية و”عش الدبابير”

أ.د. أسعد عبد الرحمن

في العام 2007، ترأست وفد منظمة التحرير الفلسطينية إلى بغداد لمتابعة محنة اللاجئين الفلسطينيين الذين كانوا عرضة للتطهير العرقي بعد الاحتلال الأمريكي للعراق. وبحكم العلاقة الوثيقة مع الرئيس العراقي جلال الدين طالباني والتي تعود إلى أيام المقاومة الفلسطينية في بيروت، قدمني الرئيس إلى الدكتور صالح برهم، ذلك الرجل الكردي المبهر، (الذي شغل منصب نائب رئيس الحكومة نوري المالكي يومئذ) والذي تبين أنه يتمتع بعلاقات كردستانية، عراقية، إقليمية ودولية واسعة كونه سياسيا معتدلا ومنفتحا على جميع التيارات السياسية في العراق. وحين لبيت دعوة د. برهم للغداء في منزله، اغتنمتها فرصة – وسألته مباشرة: صارحني هل حقا يسعى الأكراد للإنفصال وقريبا؟! يومها أجابني بصراحة مطلقة قائلا: “هذا نوع من الجنون بل هو انتحار صريح”. واتبع كلامه مفصلا: “بالطبع نحن نؤكد على حق تقرير المصير للشعب الكردي والاستقلال، لكن تنفيذ هذه الفكرة في ظل إقليم ضعيف ومنهك، متناسين علاقتنا التاريخية مع باقي مكونات الشعب العراقي واستفادتنا من ميزانية الدولة العراقية بنسبة (17%) هو ضرب من الجنون إذ علينا قبل أي شيء أن نرتب بيتنا الداخلي” ونستعد للظرف المناسب كي نمارس حقوقنا مهما طال الزمن. وأضاف: ” أما العامل الثاني المانع فهو رفض الدول الأربع المجاورة والتي فيها نسب مختلفة من الشعب الكردي لانفصال المكون الكردي/ العراقي ما يدفع الأكراد في الدول الأخرى للتحرك بهذا الاتجاه، وهذا يجعل القضية الكردية قضية إقليمية وليست شأناً كردياً خاصاً، بل يجعلها “قضية داخلية وطنية بامتياز لهذه الدول مما يدفعها لمقاومتنا على نحو شرس”.

في السياق، لا مجال لإنكار التشابه بين القضيتين الفلسطينية والكردية. فكلا القضيتين تجهدان لتحقيق تقرير المصير والتحرر، وقد تعرضتا وما زالتا إلى قمع ممنهج، سواء عبر تصريح بلفور عام 1917 الذي شرعن تأسيس كيان غاصب طرد الشعب الفلسطيني من أرضه، أو اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 التي قسمت الوجود السكاني الكردي بين أربع دول “كبرى” في المنطقة، تركيا وإيران والعراق وسوريا. بل إن القضية الكردية أكثر تعقيدا من القضية الفلسطينية لتوزع الأكراد في هذه الدول وللأهمية الجيوسياسية الإستراتيجية والاقتصادية للدول الحاضنة لوجودهم، وهي -في الأصل- دول متصارعة أكثر منها متصالحة. وفي حين أن قضية فلسطين، وجدت طريقها إلى أروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وصدرت مئات القرارات بشأنها، في المقابل تتشعب الإشكالات التي تنطوي عليها القضية الكردية، التي لا يتم التعامل معها ضمن منظور واحد لأنها تطال أربع دول، الأمر الذي شكل على الدوام عائقاً أمام التعامل معها دولياً، فضلا عن تمايز واختلاف مصالح الأكراد في كل دولة من هذه الدول.

يتعاطف الشعب الفلسطيني (والعربي) مع القضية الكردية بلا شك، لكنه التعاطف الرافض لتوجهات بعض القادة الأكراد واستعدادهم للتحالف مع قوى معادية للبلاد التي يعيشون فيها، فما بالكم بالتحالف مع إسرائيل، التي تعرض نفسها داعما ومساندا لأقليات دينية وعرقية. وفي هذا الإطار، وفي الوقت الذي لم تعلن فيه أي جهة أو دولة موافقتها على استفتاء انفصال إقليم كردستان، نرى إسرائيل الدولة الوحيدة الداعمة بقوة لذلك التوجه. بالمقابل، فإن هناك انقساما بين القوى الكردية نفسها، ولدى التركمان الذين يرفضون الاستفتاء والإنفصال، ناهيكم عن إجمالي المواقف الدولية الرافضة، ناهيك عن رفض الدول الأربع وعلى رأسها إيران الدولة صاحبة الكلمة الأولى في العراق والتي تهدد الأكراد، علانية، بالعقاب… علاوة على قوة الرفض التركي الذي لا يمكن الاستخفاف بها، كي لا نتحدث عن موقف العاصمة بغداد الرافضة تماما للاستفتاء والانفصال.

بعيدا عن ما نشر قديما أو حديثا عن تواصل سري وعلني بين منظمات وحركات كردية وإسرائيل، فإن الأمر المثير هو أن نظاما عنصريا/ فاشيا/ استعماريا/ استيطانيا يفرض أبشع وأطول احتلال في تاريخ البشرية كالدولة الصهيونية، يعلن تأييده لحق تقرير شعب ما، ويسارع قادته للدفاع بقوة عن حق الشعب الكردي في تقرير مصيره. من هنا ضرورة التمييز بين التوظيف الإسرائيلي للمسألة الكردية كجزء من مخططات التفتيت للمنطقة العربية وبين حق تقرير المصير للشعب الكردي الذي ينجح عبر إقامة علاقات حسن جوار ومصير مشترك مع العرب والدول المعنية الأخرى، وعدم الاستقواء بإسرائيل. فالمزاج السياسي والثقافي الكردي العام يقف مع حقوق الشعب الفلسطيني، وبالضد من مقارفات الدولة الصهيونية بحق ذلك الشعب. وما من أحد ينسى صلاح الدين الأيوبي، محرر القدس وغيرها من احتلال الإفرنج. بل لا يمكن إنكار الإسهام الفكري والسياسي والثقافي الكردي منذ بدء الحضارة الإسلامية وحتى اليوم وهو جزء لا يتجزأ من النسيج الحضاري والثقافي الإسلامي/ العربي. وإذ نؤكد مجددا على دعم القضية الكردية وحق شعبها في تقرير المصير، لا نستطيع الذهاب في دعمنا إن كان ذلك على حساب العرب وفي صالح إسرائيل. ويبقى السؤال المركزي: والحال كذلك، لماذا يُقدم رئيس حكومة كردستان (البرزاني) في هذا الوقت العصيب والمعقد على إثارة “عش الدبابير” المحلي والإقليمي (بل والدولي) وعلى من يعتمد فيما عدا “إسرائيل”؟