رمضان: المعاني “الاصيلة”… والممارسات “الدخيلة”

د. أسعد عبد الرحمن

شهر رمضان شهر الإيمان والتآخي والعطاء والخيرات، يحل وتحل معه نسائمه وعاداته وطقوسه الاجتماعية المشتركة بين أغلب مجتمعاتنا العربية والإسلامية؛ والتي تتجلى في الفرح بترقب هلاله، وتهيئة المساجد والمصليات، والتهنئة بحلوله، وصلة الأرحام، وتبادل الزيارات، وكثرة المصلين والعابدين من جميع الطبقات والفئات، إضافة إلى تزايد النشاط في التعبد بما فيه من صلاة وتلاوة واعتكاف ودعوة وزكاة وإعداد موائد الرحمن. ورغم التفاوت عند المسلمين في عاداتهم الرمضانية من بلد لآخر، إلا أنهم يتحدون في عبادتهم، التي يفترض أن تُظهر وحدتهم في أبهى حللها، وبقربهم من الله عز وجل، وتوطد أواصر المودة والرحمة فيما بينهم، فهو شهر: “أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار”.

ومن العادات التي نلحظ أنها – من أسف شديد – تتراجع في هذا الشهر: الزيارات واللقاءات بين الأهل والجيران وتلمس احتياجات بعضهم بعضا والتي أصبحت تتخذ طابع الرسمية، وإن وجدت فهي منزوعة الدسم، ومفتقدة لحميميتها وألقها غالبا، مثلما غابت أيضا عادة تبادل المأكولات -على تواضعها- بين الجيران، ربما بفعل ضغوط نمط حياتنا الاستهلاكي، سريع الإيقاع محكم الحلقات، وربما لكثرة تعقيدات الحياة، وتشعب علاقاتها… وربما لأن النفوس لم تعد كما كانت. وفي السياق، ترد العادات المرفوضة المرتبطة برمضان، فمنها على سبيل المثال لا الحصر: النوم نهاراً والسهر ليلاً والتفنن في تضييع الأوقات، والمبالغة في تناول العديد من أصناف الطعام عند الإفطار والسحور، وكثرة ارتياد الأسواق بداع وبدون داع، وشغف متابعة المسلسلات والبرامج غير الهادفة التي لا تتناسب مع قدسية هذا الشهر لدرجة الوقوع تحت نير أسرها، سواء لناحية الإنقطاع عن الخروج للقاء الأصحاب؛ خوفاً من ضياع أحداث بعض الحلقات التلفزيونية، أو لناحية استحواذها على أحاديث المجالس خلال لقاءاتهم من ناحية أخرى، حتى إنّها تفرق بين الأسرة الواحدة في اختيار كل واحد منهم لمتابعة عمل تلفزيوني مختلف عن الآخر..!، وهذه -بدون أي شك- قد أحدثت تغييراً كبيراً في العادات الاجتماعية، والسلوك الفردي والجمعي لدى الكثير من المشاهدين.

كما أن مثل هذه الممارسات أسهمت، مع الثورة التقنية واستخدام أدوات التواصل الإلكترونية الحديثة، بإحداث فجوة كبيرة في العلاقات الاجتماعية مما أدى إلى فتور وتراخ في أواصر التواصل داخل الأسرة الواحدة وبين الأقارب، وما يبعث على الأسى أننا شهدنا ونشهد -خلال السنوات الأخيرة- تسلل بعض المظاهر والعادات الدخيلة إلى حياتنا الرمضانية الليلية التي تتنافى وروح هذا الشهر، والتي يربطها مبتدعوها حصريا به. فبعد إسفاف قطاعي المنتجات الاستهلاكية ومخرجاتها والقنوات الفضائية وبرامجها السقيمة أحيانا، وإنتاجها الدرامي “الغني” غالبا بالافساد الممنهج للذائقة الرفيعة وللشباب أساسا؛ بات مألوفا في كثير من بلداننا العربية والإسلامية نصب ما تسمى بالخيمات، أو، “الخيبات..!” الرمضانية، أو حتى تجهيز قاعات رئيسة في فنادق بتصاميم مستوحاة من الخيم الرمضانية في سياسة يبدو أنها آتت وتؤتي أكلها، حيث انتشرت بسرعة النار في الهشيم، وأصبحت تقام فيها السهرات والأفراح والليالي الملاح حتى يتبين للساهرين فيها الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر..!. وما كنا لنعترض لولا أنه يجري في داخلها سفح الوقت الثمين لفئة كبيرة وعزيزة من شبابنا في التدخين والأرجيلة ولعب “الورق” واللهو الماجن أحيانا. وللأسف فإن معظم مرتادي هذه الخيمات من فئة الشباب الذين نطمح ونطمع أن يكون لهم نصيب في أجندات منظمات المجتمع المدني -بوصفهم مصادر للتربية المدنية- من ناحية إصلاحهم وحل مشكلاتهم وملأ أوقات فراغهم بكل نافع ومفيد، بنفس وتيرة وزخم دعوات هذه المنظمات لتعزيز المواطنة الفاعلة بينهم والإصلاح والجندر و”التمكين”… فأي إصلاح يبدأ بالطبع من “إصلاح” هذه الفئة التي تشكل أعرض شرائح الفئات المستهدفة وتعاني من كل أصناف الفراغ وقلة الوعي!.

يتحتم على كل فرد منا صنع الإرادة في الذات، وإعمال الفكر بالتفريق بين العادات الرديئة التي تتطلب منا المكافحة والمحاربة وجعلها هدفاً للتغيير لتهديدها صرح قيم الأخلاق الشخصية والوطنية النبيلة بالانهيار والسقوط، وبين العادات الحسنة التي يجب نشرها والدفاع عنها وجعلها هدفاً للترميم والتجديد، لأن ذلك مسؤولية كل منا دون استثناء، وهي ليست حكراً على الأسر وأولياء الأمور والمؤسسات التربوية أو طبقة العلماء والقدوات الشخصية والوطنية والمثقفين فكلنا راع وكلنا مسؤول عن رعيته، وإن كنا أيضا نلقي اللوم على الهيئات المسؤولة عن استجرار مثل هذه “الخيبات” السرطانية، وإسهامها بإقامتها والترخيص لها، وتراخيها عن مراقبتها أسوة بتجمعات أخرى!

عاداتنا وتقاليدنا وتراثنا وموروثاتنا الشعبية الرمضانية وغيرها، جميعها ترسم شكل الهوية الكامنة فى ذاتنا وهى عنوان كل واحد منا، فبدونها نحن وجوه بلا لون أو ملامح أوروح، فلنتمسك بها ونعض عليها بالنواجذ، فنحن خالدون بالحفاظ على هويتنا الوطنية الأصيلة، فلننقها من كل ما هو إستهلاكي متهافت وضار، ولنحرص على إحياء تلك العادات والموروثات بروح عصرية متطورة، منسجمة مع المضامين الصحية (للنفوس والأجساد) بحيث تكون بعيدة عن اجترار “الغث” في التراث، واشهار الإنحياز لكل ما هو “سمين” فيه !